مقالات
عمرو الملاّح : غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع (حداد)
عمرو الملاّح : التاريخ السّوري المعاصر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق 1859 – 1928
صورة غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق نقلاً عن الكتاب المرجعي النادر (ذكرى استقلال سوريا) لمؤلفه الدكتور سعيد طليع مندوب طرابلس في المؤتمر السوري العام والتزم بنشره السيد يوسف السيوفي وطبعه في مطبعة طه إبراهيم ويوسف برلادي بمصر في العام 1920.
كتب عنه العلامة والمفكر الدمشقي محمد كرد علي في مذكراته:
“عرفتُ صديقي البطريرك غريغوريوس حداد قبيل الحرب العالمية الأولى وبلغني عنه هذه الرواية، بسبب المجاعة التي أصابت شعوب هذه المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى استنهض البطريرك الهمم لمساعدة الجائعين والبائسين وباع أملاك وأوقاف الطائفة الكثيرة في سورية ولبنان ليشتري بها طعاماً للمحتاجين
في الحرب العامية الأولى 1914 – 1918 وقعت مجاعة السفر برلك ففتحت البطريركية الأرثوذكسية بدمشق أبوابها لإطعام الجياع بغض النظر عن الدين والمذهب وحتى منهم الوافدون من بيروت، ورهن البطريرك غريغوريوس حداد أوقاف البطريركية والأديرة كلها للاستدانة وباع مقتنيات وأواني الكنائس الذهبية والفضية التي تحكي تراث البطريركية الروحي حتى أن البطريرك التالي “الكسندروس طحان” باع كل هذه الأوقاف ليفي الديون وفوائدها الفاحشة وبذا خسرت البطريركية الأرثوذكسية كل ممتلكاتها ولكنها ضربت أروع مثل في الأخوة.
ويقال إنه فتح أبواب البطركية للجميع أيام الحرب، واستدان أموالاً طائلة لإطعام الجائعين، ومن أخباره في هذا الشأن أنه كان له صليب ماسي أهداه إيّاه قيصر روسيا “نقولا الثاني”، لما نفذت أموال البطريركية رهنه لدى صائغ يهودي دمشقي بألف ليرة عثمانية، فلاحظه أحد أغنياء المسلمين وفك رهنه وأعاده إلى البطريرك، فأخذه وباعه من جديد دون أن يدري به أحد وحفظ مثيلاً له من زجاج، هذا لم يعرف به أهل الدار البطريركية إلا بعد موته كما ذكر عن غبطته; أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، في مساء أحد مرفع الجبن، التقى نساء مسلمات يشكين الجوع قائلات: “نريد خبزاً يا أبا المساكين. نريد خبزاً لأطفالنا الجائعين!” فعاد أدراجه إلى الدار البطريركية وأمر بأن توزّع عليهن المؤن من البطريركية ثم أقفل على نفسه راكعاً يصلي بين الساعة الرابعة من بعد الظهر والحادية عشر ليلاً. ولما جاءه طبّاخ البطريركية عارضاً إعداد بيضتين مقليتين بالسمن مع رغيف وقطعة حلوى، أجاب “لا يليق بي أن آكل وغيري يتضوّر جوعاً!”. ثم أمر بأن يعطى طعامه لأول فقير يمرّ بالبطريركية في الغد.
تأخّر البطريرك يوماً عن وجبة الطعام فحفظ له الطبّاخ حصّة مميّزة. فلما حضر ولاحظ أن ما أفرز له كان أشهى مما قدّم لسواه بادر بالقول: “أعطوني مما قدّمتم لإخوتي!”.
لما حان وقت الطعام مرة، وكان الزمن صياماً، أحضر له الطاهي إفطاره. في هذه الأثناء كان أولاد يضجّون في ساحة البطريركية فسأل عما بهم فقيل له إنهم فقراء جائعون فاستدعاهم وأعطاهم طعامه، من جهة أخرى، كان البطريرك غريغوريوس يشمل كهنته، لا سيما الفقراء منهم، بعطف أبوي كبير. وإذ كان المعوزون بينهم يأتون اليه بجبب رثّة كان يعطيهم من أجود ما عنده ويبقي لنفسه الممزّقة يرقّعها بنفسه ويسكف نعله بيديه. وقد اضطرت حاشية البطريرك، تدبيراً، إلى إخفاء بعض ملابسه الكهنوتية عنه حتى لا يهبها للمحتاجين، هي أيضاً.
وقد كان البطريرك يطوف مع شمّاسه وقوّاسه يجمع المطروحين في الأزقة إلى الدار البطريركية والمدرسة التي تقابلها ويعنى بإعالتهم. وكثيراً ما كان يطعمهم بيده.
وقد قيل أنه لما تفشّى وباء الكوليرا غريغوريوس مطران على طرابلس، لم يهرب من المدينة بل شرع يزور المرضى ويعزّي المنكوبين ويعطف على الفقراء. ولمّا ألحّ عليه أصدقاؤه بالمغادرة أجاب: “ليست حياتي أفضل من الذين لا يستطيعون الفرار من الوباء!”.
بلغه يوما نفاذ الدقيق من البطريركية إلا كيساً عزم الخدّام على خبزه وتوزيعه على الأرثوذكسيين دون غيرهم. فجمعهم وأخذ رغيفاً بيديه وقلّبه ثم نظر اليهم قائلاً: “لم أجد كتابة ما على الرغيف تقول أنه للروم دون سواهم!” وللحال أمرهم بتوزيع الخبز على الفقراء كافة دونما تفرقة.
سأل متسوّل البطريرك يوماً حسنة فقال له أحد الاكليريكيين المرافقين له: ما طائفتك؟ فانتهره البطريرك قائلاً: هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من طائفة غير طائفتك؟ إلا يكفيه ذلاً أنه مدّ يده ليستعطي لتذله بسؤالك عن عقيدته؟! ولما قال هذا أخرج نقوداً من جيبه وأعطاه فانصرف مسروراً مجبور إيّاها.
في عام 1913، لبّى دعوة القيصر الروسي نقولا الثاني ليرأس احتفالات آل رومانوف بمرور ثلاثة قرون على اعتلائهم عرش روسيا وسافر وبمعيته مطران طرابلس الكسندروس متجهاً إلى اسطنبول حيث حل فيها ضيفاً على الحكومة العثمانية وقابل على التوالي الصدر الأعظم ثم السلطان محمد رشاد وبمعيته وفده المكوّن من مطران طرابلس والحاجة سوسان شقيقة غبطته والوكيل البطريركي بالاستانة الخواجة كمال قزح وقد منح السلطان علمنا الوسام العثماني المرصع، والمجيدي الثاني لمطران طرابلس، ووسام الشفقة الثاني للحاجة سوسان والعثماني الثالث لكمال قزح. ثم تابع سفره إلى روسية حيث وصل بطرسبرج وقابل القيصر والقيصرتين وولي العهد وقد نزل القيصر عن عرشه لدى دخوله البلاط وانحنى أمام البطريرك فباركه البطريرك وقبله في كتفه. أما القيصر فقبّل رأس البطريرك أولاً ثم يده اليمنى. ثم احتفل البطريرك باليوبيل في كاتدرائية سيدة قازان الأحد 6 آذار 1913 وقرأ الانجيل بالعربية. ورقى الارشمندريت ألكسي إلى رتبة الأسقفية (وقد تولّى المذكور البطريركية الروسية لاحقاً).
وفي ختام الاحتفالات منح القيصر نقولا الثاني البطريرك غريغوريوس النوط الذهبي المضروب لذكرى اليوبيل، ووسام القديس ألكسندر نيفسكي من الرتبة الأولى وهو أعظم الأوسمة الروسية وقدّم له صليباً مرصعاً بالماس لكي يعلّق على مقدمة اللاطية فوق الجبين كالبطاركة الروس.
وكانت هدية البطريرك للقيصر مائة مخطوطة من المخطوطات البطريركية النادرة منها ما ارتبط بزيارة البطريرك مكاريوس بن الزعيم في القرن 17 إلى روسية وهي محفوظة الآن في مكتبة البطريركية في موسكو وفي متحف الكرملين.
قاد هذا البطريرك بين 1916 و1918 الصف المسيحي مع الشريف حسين وابنه الأمير فيصل للتحرر من نير الأتراك وبايع فيصل ملكاً على سورية 1920 وبعد استشهاد البطل يوسف العظمة في ميسلون ودخول غورو إلى دمشق كان البطريرك هو الوحيد الذي ودع الملك فيصل في محطة القدم فبكى فيصل لما قال له البطريرك أن هذه اليد التي بايعتك ستبقى وفية لك إلى الأبد فحاول فيصل تقبيلها لكن البطريرك سحب يده وقبله في جبينه.
عام 1920 أيضاً أمر الجنرال غورو بإقامة حفل استقبال كبير في دار المفوضية الفرنسية احتفالاً بالنصر. ودُعي إلى هذا الحفل كبار الشخصيات الدينية والرسمية والفعاليات. فقام غورو بنفسه وأشرف على توزيع أماكن الجلوس حول المائدة، فأجلس مفتي دمشق عن يمينه والبطريرك غريغوريوس عن يساره، ولم يكن يعرفه إنما كان قد سمع صيته. وعندما دخل البطريرك مد غورو يده مصافحاً باحترام متفرساً في وجه هذه الشخصية المتميزة وما قام به خصوصاً في أيام المجاعة وفي تأييد صاحبها لفيصل بالسر والعلن، وكان متيقناً بأن البطريرك ومن ورائه هذه الطائفة العربية لن يكون مؤيداً للانتداب كما يشتهي، فالكنيسة الأرثوذكسية لم تكن مؤيّدة للوجود الفرنسي في سورية ولبنان بما في ذلك تلك الفترة الممتدة من عام 1920 وحتى وفاة البطريرك غريغوريوس عام 1928 التي شهدت أزمات حقيقية بينه وبين الفرنسيين، إذ أنه كان يُقاوم الانتداب بشتّى الوسائل ويُقدّم المعونات للثوار في الغوطة. وكان كشاف فوج القديس جاورجيوس الأرثوذكسي يوصل المدد للثوار. وفي أحد الأيام كان أحد رهبانه قد ضلّ طريقه فتوغل في الغوطة واعتقلته المخافر الأمامية للثوار ونقلته إلى قيادتها التي ما أن سمعت أنه من أتباع البطريرك غريغوريوس حتى أوصلته باحترام إلى البطريركية.
عام 1925 ألم بحداد مرضٌ خفف حاسة البصر لديه، حتى توفاه الله عام 1928 وجرى تشييع جثمانه من بيروت إلى دمشق، فاستقبلت الحكومة السورية جثمانه على الحدود بإطلاق مئة طلقة من المدفعية تحية له، فيما كانت الجماهير تصرخ: “مات أبو الفقير، بطريرك النصارى وإمام المسلمين، نزلت بالعرب الكارثة العظمى”! وأرسل الملك فيصل من بغداد إلى دمشق مئة فارس على الخيل ليشتركوا في التشييع، كما يُروى أن الجثمان عندما وصل إلى ساحة الشهداء في بيروت شرع أحد التجار المسلمين يرش الملبس على الطريق أمام الجثمان قائلاً: “أن هذا القديس قد أعالني أنا وعائلتي طيلة الحرب العالمية الأولى”.
كما شارك في الجنازة عدد كبير من شيوخ المسلمين، وقد قيل أن المسلمين أرادوا الصلاة عليه في الجامع الأموي الكبير كما شارك خمسون ألف مسلم دمشقي في جنازته وأسموه محمد غريغوريوس.. وكانت الجماهير تصرخ: «مات أبو الفقير بطريرك النصارى وإمام المسلمين. نزلت بالعرب الكارثة العظمى».
دفن البطريرك غريغوريوس الرابع في مقبرة البطاركة الأنطاكيين بدمشق.