مقالات
د. عادل عبد السلام (لاش): غياض الحَور في مرج السلطان
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
قرية مرج السلطان الشركسية واحدة من قرى الغوطة الشرقية / والمرج لوقوعها على خط مرج السلطان الجغرافي الفاصل بين بساتين الغوطة وغياض حورها ، ومراعي المرج وحقولها الهزيلة في الشرق. ومع ذلك لم يعدم المرج من أشرطة من الأشجار المسايرة لقنوات المياة المشتقة من شبكة تفرعات نهر بردى الثالثة، ويتفرع من هذه الشبكة نهير صغير يعرف بنهر (أو قناة مرج السلطان) يأتي من الغرب باتجاه الشرق والجنوب الشرقي إلى قرية الدير سلمان، فيقسم القرية إلى حيين، شمالي ويعرف بحي الأبزاخ وحي جنوبي هو حي الشابسِغ. كما تجري في أراضي القرية مياه قناة شمالية تغذيها مياه عين البيضا التي عمقها الشركس واستنبطوا مياهها في سنة 1932 الجافة، لتتجه إلى أراضي الدير سلمان بعد رفدها بمياه عين اليهود وعين الفوار، التي تصل إلى نهر البليلاني فالبلالية. ويتفرع من نهر البليلاني قناة تتجه جنوباً، لتغيض مياهها في أرض المرعى. وهناك قناة في جنوب القرية تسيل فيها المياه الفائضة عن حاجة أراضي حرستا القنطرة لري أرض المراعي (المرعى) التي تحتل نحو خمس مساحة أراضي القرية، التي كانت تشكل مرتعاً لرعي حيوانات القرية، وتصبح في الصيف مسيلات جافة تماماً معظم السنوات. وفيما عدا الفرع المنبثق من نهر البليلاني. ونهر مرج السلطان المار في القرية، وهما دائما الجريان، فإن مياه القرية شحيحة في فصل الجفاف. علماً أن نهر القرية يبدأ جريان الماء فيه صيفاً، بدءاً من نبع (سفر نان) في وسط القرية. فعلى امتداد هذه الخيوط المائية غرس الشركس خطوط أشجار الحور والصفصاف والدردار. لكنهم وحين أدركوا القيمة التجارية لأشجار الحور وميزاتها توسعوا في زراعته خارج مسارات القنوات، في غياض تروى بمياه جداول مشتقة تسيل فيها مياه في الشتاء.
عرف شركس مرج السلطان مزايا شجرة الحورمنذ بداية استقرارهم في منطقة المرج، مستفيدين من خبرة جيرانهم مزارعيه في الغوطة، فأقبلوا على زراعته في الأماكن الغنية بالمياه السطحية، والجوفية والرطبة. ومن أبرز مزايا شجر الحور نموه بسرعة، وعودة نموه في زمن قصيربعد قطع الشجرة. ولما كان الحور سلعة تجارية مطلوبة كمصدر مهم للأخشاب المستعملة في بناء المساكن وتغطية أسقفها بأعمدة أشجار الحور المستقيمة والطويلة، وفي صناعة الأثاث وصناعة الورق وإعواد الثقاب والكثير الكثير من الأدوات والحاجيات المصنوعة من خشبه، أقبل الكثيرون من مزارعي مرج السلطان على زراعته خاصة وأن إنتاجه وفير وكلفته قليلة واصابته بالآفات محدودة. ولما كانت مشكلة حور مرج السلطان الرئيسية هي شرهه للماء وقلته في السنوات العجاف. فقد واجهها المزارع باستنباط المياه الجوفية، وبشكل خاص بعد دخول محركات رفع المياه وضخها، إذ كانت مرج السلطان أولى قرى المرج التي عرفت موتورات الماء.
وعلى الرغم من تعدد أصناف الحورفضل الشركس الحور الرومي (البولياني) لشدة تحمله لحرارة الصيف وبرودة الشتاء، وكذلك الحور الحموي على غيره، وهما الصنفان المرغوبان من قبل تجاره وصنَّاعه في دمشق وخارجها. لجودة أخشابهما ولاستقامة سوقهما وطولها البالغ 20 – 30 م. وكان مزارعومرج السلطان يجيدون أخذ العُقل والشتلات من سوق أشجارالحورالقوية وتحضيرها للغرس للإكثار والتوسع في زراعتها. كما كانوا يقلمونها في مواسمها في أواخر فصل الخريف. وكانت تشفية الشجر Уджэрэпсынырعملية مهمة للشجر نفسه ولنموه وتحسينه من جهة ، ولتوفير الوقود الخشبي من الأغصان اليابسة والميتة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من تعدد أسماء شجرة الحور في اللغة الشركسية إذ يعرف الحور الأسود بـ (يَكئابثئه ЕкIапцIэ)، والحور الرومي المستقيم بـ (نِ هِ Ныхы)، والحور عامة بـ (وَتابَه Отабэ) كان شركس مرج السلطان يدعونه بـ (قَواق Къэуак) وهي تسمية تركية، باستثناء شجرة حور ضخمة وحيدة كانت تعرف بـ ( قُومبِلِ ظِر Къумбылы жъыр)، أي الحورة الحموية العتيقة، في جنوب القرية أذكرها جيداً، إذ كنا نرقص في صبانا حولها رقصة الرعد Шыблэ удж الدائرية ونحن ممسكين بأيدي بعضنا البعض مرددين دعاء حمايتنا من الصواعق، ( يلَه، يلَه تي تشله وِ قيمو….Елэ, елэ ти чылэ укъемыу). يله، يله لاتضرب بلدتنا…الخ ؟؟؟؟؟.
وكان المزارعون ينقلون رغبتهم في بيع أشجار حورهم، إلى تجار الأخشاب في دمشق في وقت مبكر، فيتوافد هؤلاء لمعاينتها وتقدير أسعار شرائها وهي في أرضها، في عملية تعرف بـ (الضمان)، المعروفة بالنسبة للفواكه وغيرها أيضاً. وكثيرأ ما كان أصحاب الأشجار يدعون أكثر من تاجر ضامن أو(ضَمَّان)، بهدف المضاربة والمزايدة لرفع الأسعار لصالح المزارعين. وبعد الاتفاق يرسل التجار عمال قطع الأشجار وتجريدها من كافة أغصانها أوائل فصل الشتاء. ثم يبدأ نقلها إلى حواصل (مستودعات ومتاجرالأخشاب و أدوات النجارة من خشب ودف ومفردها الحاصل وصاحبه يدعى: الحواصلي)، تتركز في حي الميدان الدمشقي المختص بتجارة أخشاب الغوطة، كما تتركز فيه البوايك ومفردها : بايكة (وهي مستودعات كبيرة لتخزين الحبوب المجلوبة من حوران والجنوب السوري)، وقد تطلق كلمة (البايكة) على حظيرة الدواب أيضاَ. وكانت أعمدة أشجار الحور المشفاة (المجردة تماماً من الأغصان) تنقل بواسطة الطنابر وهي عربات تسير على عجلتين تجرها دابة (غالباً كديش)، تستعمل للحمل والنقل. يقودها الطنبرجي، سائقها. وكان أغلب الطنبرجية من الميدان أيضاً وعلى علاقات طيبة مع أهالي مرج السلطان. لكن أحدهم وكان يعرف بـ (أبو محمود) أساء التصرف مع عجوز وأهانها لمحاولتها جمع وأخذ بعض الأغصان اليابسة من غيضة حور. فعاقبه فتية من القرية عقوبة لم ينسها طوال تعامله مع أهلها. إذ كان برنامجه أنه بعد تحميله طنبره كان يتناول وجبة العشاء ويسهر عند صاحب الغيضة ليربط كديشه بطنبره وينطلق به في منتصف الليل. وكان الجميع يعرف أنه كان ينام في عربته طوال الطريق من مرج السلطان إلى الميدان بدمشق، ولا يستيقظ إلا والكديش العارف بخط سيره، يقف أمام باب الحاصل المقصود في الميدان. ففي ليلة الحادثة خرج بعض الفتية على الدراجات الهوائية، وكمنوا له عند مفرق المليحة (على بعد 10 كم من مرج السلطان) وأمسكوا بعنان الكديش وأداروه باتجاه مرج السلطان، وتركوه يتابع سيره عائداً إليها. تابع الكديش سيره وأبو محمود يغط في نومه حتى استيقظ على توقف الكديش عند باب مضيفه الذي انطلق منه، مع انبلاج الفجر. فكان درساً قاسياً له مع لوم الفتية وتعنيفهم من كبار القرية.
تراجعت زراعة أشجار الحور والزراعة عامة في مرج السلطان مع إزدياد العاملين من أبنائها في المدينة كموظفين وعمال، وتحول أغلب السكان الى امتهان أعمال أخرى. واليوم لم يبق لنا من كل ما تقدم سوى الذكرى والتحسر على ما كنا ننعم به من هناء وسكينة ومحبة وتعاون… بعد ما طالنا الظلم والدمار والتهجير والتشريد…. من مخلوقات حاقدة حولت قريتنا التي كانت تعرف بـ (سويسرا منطقة المرج)، إلى بلدة أشباح.
عادل عبد السلام (لاش)
دمشق 15 – 7 – 2015.
غيضة أشجار حور رومي