عبد الرحمن الجاسر – التاريخ السوري المعاصر
صورة تبعث في النفس العزة والمحبة والفخر بماضينا الجميل .. وأصالة سيدات هذه المدينة قبل أن يلوثوها .. وما زلت أذكر تلك السيدات الفاضلات من سيدات حلب قبل أكثر من نصف قرن .
صورة تعود للنصف الثاني من القرن الماضي ، وتمثل دكان ذلك الرجل ( صالح ) بائع الخيطان الشهير ، وتقع بشارع العزيزية العام مقابل كنيسة اللاتين .
لم أتمكن من معرفة الإسم الكامل لهذا الرجل ، فثمة من قال بأن اسمه صالح سلطان وهو الأقرب للصواب ، وآخر ذكر بأنه صالح يحيى أبو عارف وأصله من بلدة ( أرمناز ) .
وما من سيدة حلبية إلا وتعرف تلك الدكان التي كان لها شهرةً واسعةً في النصف الثاني من القرن الماضي .
كان العم صالح يفتح دكانه صباحاً ، ويقول : يا فتاح يا رزاق .. يا مقسم الأرزاق ، ثم يصعد برشاقة فوق ذلك الجبل من شلل الخيطان ، ويتربع على قمته ليستقبل الزبائن من نساء حلب .
تدخل امرأة وتطلب منه خيطان ملاحفية بيضاء متينة لتخيط بطانة لحافها الأطلس الجميل ، فتغوص يد العم صالح في بقعة ما ولعمق معين مدروس بدقة ولمرة واحدة فقط ، ويلتقط الخيطان المطلوبة ويبيعها للزبونة ويقبض قيمة البضاعة ويقول لها : الله يعوض عليك .
تدخل أخرى وتطلب خيطان ملونة لشغل لوحة مدرسية لإبنتها ، فتغوص يد الحاج صالح من جديد لعدة نقاط ، ويخرج كل الألوان المطلوبة بسرعة متناهية وكأنه الروبوت العجيب !!.
كان سر العم صالح عجيباً !!.. لا يمكن تفسيره .. فما هذا الذكاء الحاد الذي منحه الله له !!.. ولماذا كان يفضل هذه الفوضى بدكانه !!.. هضبة من كل أنواع الخيطان والماركات الأوربية واليابانية والصينية ، كومها بعشوائية وتربع فوقها .. ويعلم وبمنتهى الدقة كل شلة ولونها ونوعها أينما كانت حتى ولو على عمق مترين !!.
يلاحظ بالصورة بأنه كان لديه خدمة للهاتف العمومي وبأن اجرة المكالمة 10 قروش سورية ، لست أدري أين كان يضع جهاز الهاتف !!.. هل هو الآخر كان تحت كومة الخيطان !!.
كما يلاحظ وجود فتحات بواجهة المحل ، وتساءلت كيف لم تكن القوارض تتسلسل لكومة الخيطان !!. وكيف كان العم صالح يتصرف معها !!.
رحل العم صالح بعد كفاح طويل ، وترك وراءه جبل الخيطان يشهد على حرفيته وذكائه .
مررت بهذا المحل فوجدته مغلقاً ، وعلمت من الجوار بأن من يديره هو ولد العم صالح .
دكان العم صالح هي إحدى ذكريات التراث الحلبي الجميل ، تراث جميل كجمال روح ذلك الرجل البسيط رحمه الله الذي كافح بشرف وكسب رزقه بعرق الجبين .
حلب 31 كانون الأول 2024