مقالات
محمد عدنان حريتاني: حمام النسوان
محمد عدنان حريتاني- التاريخ السوري المعاصر
الذكريات نعمة من نعم الله التي وهبها للإنسان، فهو يذكر الأشياء الجميلة والأحداث السارة، ويسترجع لحظاتها المفعمة بالسعادة، وينسى أو يتناسى تلك المزعجة وغير الهامة، يتباين الناس في مقدرتهم على ذلك فالبعض يمتلك ذاكرة عميقة راسخة قلّ أن تخذلهم والبعض كما في حكايات الجدات عن “أبو نسينا” الذي ينسى دائماً من هو..
وهذا التباين يمايز بين الناس وهو سبب رئيسي في اختلافهم عن بعضهم البعض.
أكتب اليوم عن حمام السوق أو كما يدعونها الحمامات العامة أو “نزلة الحمام” بالحلبي موثقاً نشاطاً طوته الأيام، وما عاد يذكره إلا القليل فالغالبية من الجيل الجديد لا يعرفونه، أقدم لما أكتب بموجز لا يغني ولا يسد عما قاله أهل العلم والاختصاص، بل هو توطئة لهذه الورقة الخريفية.
والحمامات العامة أو حمامات السوق قديمة جداً وعمرها عمر المدن التي وجدت فيها، كانت الغاية التي وجدت من أجلها هي النظافة الشخصية، ومن ثم تطورت لتكون ركناً متمماً للطهارة في الدين الإسلامي لهذا تلازم وجودها بالقرب من الجوامع والأسواق، وفي حلب توزعت لتغطي كل الأحياء وازدادت في المراكز التجارية حيث يكثر الغرباء، ومن ثم تطور دورها فأصبحت مظهراً اجتماعياً يرتبط بالمناسبات من أعراس، وأفراح وسهرات وولائم.
تغير مفهوم الحمام وصار لها دور غير الذي كن نعرفه في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ربما بسبب الإقبال عليها، وأخيراً طالها التحديث فأصبح بعضها أشبه بمراكز التأهيل الطبيعي أو النوادي الرياضية بعد إدخال التجهيزات الحديثة إليها ومولدات البخار وأجهزة المساج وأصبحت حوائطها وأرضيتها مغطاة بالسيراميك وتغير فرشها فأصبحت شيئاً آخر غير حمام السوق التراثي الذي نعرفه وزال ذاك العبق الذي كنا نشتمه ونحن ننزل إلى الحمام في رحلة إلى الماضي حيث نزل قبلنا آبائنا وأجدادنا منذ مئات السنين.
لن أخوض أكثر من ذلك في تاريخ الحمامات فما كتب عنها وعن مكانتها التراثية يعود أمره كما أسلفت للمؤرخين والباحثين، وكما أن للحمام جانباً مشرقاً يبعث على البهجة فهناك أيضاً جانب مظلم يتمثل في حياكة المؤامرات وخراب البيوت، وملتقى بعض الفاسدات، لكني لن أتطرق إليه فهو زمن ولى وروايته كثيرة متعددة.
لما كنت صغيراً ما كنت أعقل ما يدور الحديث عنه، ما أقدمه اليوم في ورقتي الخريفية هذه شهادة واحد من أبناء حلب عاصر تلك الحمامات طفلاً وعرفها عن كثب في الزمن الجميل الذي ولى دون عودة، فسجل صورة لن تجدوها فيما كتب عن حمام النسوان في المؤلفات، صورتي هذه محفورة في ذاكرة كل حلبي أصيل وأخص منهم النسوة الحلبيات مرجعي إلى ذلك ما رأته عيني وما سمعته أذني فأنا لست مؤلفاً ولا باحثاً والحكم في ذلك لأمهاتنا اللواتي أمد الله بأعمارهن.
لم يكن البيت الذي ولدت فيه في حي البكره جي ملكاً لعائلتي، بل كان مستأجراً ولا ينتمي بحال من الأحوال إلى البيوت التي تصنف على أنها تراثية، فهذه حال أغلب البيوت خارج أسوار حلب وفي حاراتها الشعبية، فجل بيوت حارتنا صغيرة وجدت من أجل السكنى وقل أن تجد فيها تلك الزخارف والنقوش التي كانت في الأحياء الجديدة أو العريقة، حتى حاراتنا كانت ضيقة وغير منتظمة وبعضها مسدود لا منفذ له، هي كالعشوائيات اليوم، وبحكم الجوار فقد دخلت في طفولتي أغلب بيوتها لكني لم ألحظ وجود حمامات منزلية فيها، بل كان جيراننا يذهبون إلى حمام السوق وفق مواعيد متعارف عليها وكنا نحن كذلك، ما أذكره أن بيت عمتي والذي يقع في منطقة تراب الغربا كان فيه حمام منزلي يقبع في ركن من مطبخهم وهو أشبه بغرفة صغيرة إذا لا توجد فيه أي تجهيزات الحمام وكان الماء يسخن ببرميل توتياء على “ببور قاظ” في طرفها ولم يكن فيها جرن وكانت عمتي تستخدم لقن الخسيل لحمام الأولاد وخاصة في الصيف، وكنت أحياناً أنضم إلى أولادها فتغسلني وكنا نلعب ونلهو.
في بيت جد والدتي وكان يقع قريباً من حي الألمجي كان لديهم مطبخ كبير يضم ركناً لتخزين الحطب وكان لديهم حمام منزلي يحتوي على موقد و”قاظان” للماء الساخن، وجرن في طرفه تعلوه حنفيتان.. وعرفت فيما بعد أن بعض بيوت حلب القديمة والتي تمتلكها الطبقة الثرية كانت تلحق بها حمامات مصغرة عن تلك الموجودة في السوق، وكانت ذات تصاميم متعددة لكنها تتفق في الأساسيات.
عندما كنا صغاراً كانت أمي تغسلنا “تحممنا” أنا وإخوتي في ركن من المطبخ صيفاً، وفي الشتاء البارد حيث تركب “الصوبات” المدافئ في البيوت كانت تغسلنا في عتبة “البيت” الغرفة التي كنا نشغلها وعائلتي وكانت عتبة واسعة المساحة، وتشعل “الصوبة” وذلك لتجنبنا التعرض إلى البرد، وكانت تعاني من نقل الماء الساخن والبارد وبعده غسل أرض “الحوش” من بقايا الماء المنسابة الناتجة عن التغسيل ولم تكن “السلاتات” قد اخترعت، وكانت تلجأ إلى هذا الحل في حالات صعوبة النزول إلى حمام السوق من مرض أو حمل وولادة أو برد شديد وكانت هذه العملية تتم بسرعة كبيرة وبشكل مختصر على عكس حمام السوق، وكانت جدتي العجوز تساعد أمي فتتولى العناية بنا بعد الحمام فتقوم بتجفيف أجسادنا البضة من بقايا الماء وتلبسنا ملابسنا النظيفة، وقد جرت العادة لدى أغلب العوائل الحلبية على النزول إلى حمام السوق مرة كل أسبوع في فصل الصيف ومرة كل أسبوعين في فصل الشتاء عدا المناسبات التي تتطلب النزول إليها من حمام عرس أو حمام نفساء أو حمام سوفة عروس..
وكانت نزلات الحمام هذه تقتصر على النسوة المدعوات لأن الغرض منها هو أداء واجب وتلبية دعوة لمناسبة وليس الاستحمام وغالباً يواكب هذه الدعوات موائد طعام تنقل وتقام في الحمام، وللحق أقول أنه في ستينيات القرن العشرين انحسرت هذه العادات بشكل شبه كامل وما عادت تتمسك بما سوى بعض العوائل والأسر التي بقيت منغلقة على نفسها تعيش في عمق حارات حلب العتيقة ورفضت العادات الوافدة نتيجة اتجاه الجيل الجديد نحو العلم والمعرفة والانتقال إلى أحياء جديدة، وتبلور الشعور بالخصوصية والراحة في حمامات البيوت الحديثة خاصة بالنسبة للنساء والفتيات، وكان حقاً جيلاً متمرداً، وما عادت الحمام معرضاً للعرائس، وصارت النفساء تغتسل بعد بضعة أيام من وضعها ووقت تشاء وكل ما نسمعه عما يجري في الحمام مجرد روايات وقيل عن قال ربما كانت قديماً في يوم من الأيام أو هكذا خيل لهم.
انظر:
محمد عدنان حريتاني: جقجقة حلبية في زمن الجفاف – الساعات