You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

علي الطنطاوي : ما أعرفه عن فارس الخوري

علي الطنطاوي : مجلة الرسالة

أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي في دمشق، من نحو عشرين سنة، حفلة لتكريم حافظ إبراهيم حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في مطلع الشباب، نقصد هذه الحفلات لننتقد الخطباء، ونبتغى لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه، ومن لم ننتقص إنشاءه انتقصنا ألقاءه، وخطب كثيرون في الحفلة، وقال فيها حافظ بيتيه المعروفين:

شكرت جميل صنعكم بدمعى      ودمع العين مقياس الشعور

لأول مرة قد ذاق جفني         على ما ذاقه طعم السرور

ولم يسلم من ألسنتا.. وكان فيمن خطب رجل قصير القامة، عظيم الهامة (جداً).. أبيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها، كان:

ليالي التصابي قد جفاني حبورها        لمتى السوداء أسفر نورها

ومن لي بإنكار الحقيقة بعدما            تحلى على وجهي وفودى نذيرها

تذكرت أيام السرور التي مضت           فاليت شعري هل يعود سرورها

لدن لي مع الأصحاب سهم مسدد      وحظى من ريم الكناس غريرها

أسفت على عهد الشباب لم تعد        تثير فؤادي مقلة وفتورها

وأدنتني الأيام من هوة الوفى             فأصبح مني قاب قوس شفيرها

وكادت صروف الدهر تطوى صحائفي       وهل بعد هذا الطئ يرجى نشورها

إلى أن..

وتخلص إلا لقاء حافظ، وقال إنه جدد له عهد الشباب…

وهي قصيدة طويلة لا أرويها، وكان صوته قوياً على انخفاض مدوياً على وضوح، كأن له عشرة أصداء تتكر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك، ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه شيئاً ضخماً.. على صحة في المخارج، وضبط في الأداء، وقوة في النبرات، وثبات في المحطات، واعتداد بالنفس عجيب، تشعر به في هذا الصوت الذي يكون له هذا الدوي كله، وهو يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء، لا يفتح له شدقه ولا يحرك لسانه، ولا يمد نفسه ولا يجهد نفسه، وأنسانا بهذا الصوت وهذا الإلقاء، أن ننقد القصيدة، أو نجد لها العيوب، وملك به قلوبنا وقلوب الحاضرين، فصفقنا له حتى أحمرت منا الأكف.

وقلت لسعيد: من هذا ؟

قال: هذا فارس الخوري.

وكنت قد سمعت باسم (فارس الخوري) قبل ذلك بزمان، سمعت به مذ كنت تلميذاً في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية أيام الملك فيصل (1919)، وكنا نعرفه علماً من أعلام السياسة، وركنا في وزارة المالية، ولكني لم أره قبل هذه الحفلة.

ومرت الأيام، وخرجت من الثانوية، واشتغلت بالسياسة، وصرت سنة 1931، رئيس اللجنة العليا لطلبة دمشق، ومحرراً في الجريدة الوطنية الكبرى جريدة (اليوم)، التي كان يقوم عليها الكاتب الوطني الخطيب الأديب، الذي علمنا تقديس الشرف، وتقدير الرجولة، عارف النكدي، وكانت اللجنة تأتمر بأمر الكتلة الوطنية، التي كان لها (في تلك الأيام) قيادة الأمة، وكانت هي وحدها تحمل لواء الجهاد، والعمل على الاستقلال، فكنت اتصل بكبار رجالها، وكنت أحضر بعض مجالسهم، وهناك عرفت فارس الخوري عن قرب، فرأيت فيه رجلاً وديعاً ظريفاً، حليماً واسع الصدر، ولكنه كان (مع كل هذا) هائلاً مخيفاً، تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة لا يهزه شيء ولا يغضبه ولا يميل به إلى الحدة والهياج، يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق، وأعصاب هادئة، فيسد على خصومه المسالك، ويقيم السدود، من المنطق المحكم، والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة، والعلم الفياض، والأمثال والحكم والشواهد، ويرقب اللحظة المناسبة حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة، وهو ضاحك، ثم مد يده يصافح الخصم الذي سقط.. لا يرفع صوته، ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه كذلك لا يفر ولا يغلب.

وما رأيته يناقش أحداً إلا شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدللاً غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وبسمته وكلمته، صبره عليه، وتملكه منه، واشفاقه عليه.

ثم كنت تلميذه في السنة الأخيرة من كلية الحقوق (1932) وكان يدرس علم المالية، وأصول المحاكمات المدنية، يلقى درسه إلقاء لا تدرى أأنت تعجب وتطرب، لفصاحة لهجته، أم لغزارة مادته، إلقاء غير محتفل به ولا متجمع له، وكانت له عادة (لازمة) هي أن يأخذ قلماً رصاصياً طويلاً، فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقر، ولا يكاد، ولا يبصر ذلك ولا يلقى باله إليه، كأنه يكره أن تبقى يده لا عمل فهو يشغلها به، أو كأنه يرى هذا الدرس لا يستحق انتباهه كله، ولا يملأ هذا الرأس النادر.. فيأخذه على أنه لهو وتسلية، وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشاكل في كل موضوع فيجيب عنها كلها، بتحقيق العالم، أو ببلاغة الأديب، أو بنكتة الشاعر، ومن أجوبته الحاضرة، ونكته السائرة، أن طالباً (ثقيلاً.. ) سأله:

– ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء وظاء، فنخرج ألستنا، ونضطر إلى هذه الغلاظة؟

فقال له على الفور، وقبل أن يتم سؤاله:

لا فائدة لها أبداً، وسنتركها ونجدد فنقول (كسر الله من أمسالك).

فسكت الثقيل خزيان.

ومن عجائب حلمه، وسعة صدره، ووقاره الذي لا يحركه شيء، أنى أقبلت عليه مرة، بعد الدرس، وكانت لي عليه جراءة فقلت له أمام الطلاب:

– يا أستاذ، ما هذا القرار السخيف الذي وضعته البلدية، لتقسيم أرض الدرويشية؟ أليس من العار أن يصدر عن بلدية دمشق هذا الجهل وهذا الظلم وهذا..

في عشر مترادفات من هذا النمط، وساق إليها نزق الشباب فلما انتهيت منا قال لي، والابتسامة لم تمح عن شفتيه:

– أنا الذي وضع ضيغة هذا القرار!

وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لم أفهم منها شيئاً،وشعرت من الخجل كأن دلو ماء حار صبّ عليّ، وقد مرت على ذلك الآن خمس عشرة سنة، ولا يزال صوته (يدوي) في أذني، فأشعر بالخجل من هذا الموقف.

وخرجت من الكلية وكنت أراه في الترام، أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه وسؤاله عني، وحفاوته بي، ما يملأ نفسي شكراً، وهذه مزية من مزاياه، يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد، وأنه أقرب الناس اليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره، والعناية به، وكنت أزور المجمع العلمي العربي، وهو من كبار أعضائه، فأراه أحياناً في مناقشات أدبية أو لغوية، فإذا هو في مجال العلم والحفظ، كما كان في مجال الرأي والفكر، وإذا هو متسلط غلاب في مصاولات الأدب واللغة، كما كان الغلاب المتسلط في مصاولات السياسة.

ومرت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجباً من العجب، وكان الوافدون على دمشق، لا يريدون إذا رأوا جامع بني أمية، والربوة وقاسيون، إلا أن يروه على منصة الرياسة، ليحدثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا وماحضروا كان النواب بين يديه (ولا مؤاخذة ياسادتي النواب) كالتلاميذ بل إن أكثرهم كانوا تلاميذ فعلاً، وكان يصرفهم تصريفاً لا يوسف يثبت على الورق، وما هم بالذين يصرفون أو يسيرون وإن فيهم لكل باقعة داهية ذرب اللسان حديد الجنان آفة من الآفات، يطيح بالحكومات، وينسف الوزارات، ولكن الحدأة تسطو على العصافير، فإن قابلت النسر المضرحى عادت هي عصفواً..

وكانت تشتبك الآراء، وتتداخل المقترحات، وتشتد المنازعات، وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويلخص الموقف، ويفسر الأقوال، ويبين المقاصد، حتى يقرب البعيدين ويجمع الشتيتين، ويصب على جمرة الغضب سطل ماء، ويستل الرأي الموافق من بين الآراء المشتبكة، سل الشعر من العجين، ويعرضه للتصويت، وكان له في هذا العرض (فن)، ما تنبه له الناس إلا بعد حين، هو أن في النواب، من لا يشتغل حتى ولا يرفع اليد، ولا ينال الأمة منه إلا حضوره الجلسة، وقبضه الراتب، وكان يعرف هؤلاء، فتارة يقول (الموافق يرفع يده)، فيكونون مع المخالفين، وتارة يقول (المخالف يرفع يده) فيكونون مع الموافقين يكف بذلك من جموح الأكثرية، ويقوم من اعوجاجها..

وغضب مني سعد الله الجابري مرة، وكان رئيس وزارة، وهو رجل حلبي لا يعرفني، فاضطررت أن استشهد بعض من يعرفني من رجال الكتلة، فما رأيت أقرب إلى من فارس بك، وكان رئيس المجلس، وقطب رحى السياسة العليا، وكان كثير المشاغل ضيق الوقت، ولم يكن بد من أن أسأله موعداً، ولكني كنت في عجلة من أمري، فذهبت إليه بعد العصر في ساعة ينام فيها أكثر الناس، فحاول الشرطي أن يردني، فنهرته ورفعت صوتي فسمعني فخرج إلي، مبتسماً، وقال له:

– هذا الشيخ علي ! ألا تعرفه؟ إنما يبدل المنصب..

وأدخلني، فرأيت المنصب لم يبدل منه شيئاً ، إنما يبدل المنصب من يكون أقل منه فيكثر به، لا من يكون أكبر من مناصب الأرض كلها، وقديماً قيل: السنبلة المملوءة تنحنى، والفارغة ترفع رأسها.

ودخلت       عليه في مكتبه وهو رئيس وزارة، فما وجدت إلا أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالم الأديب الحاضر الجواب، الصائد النكتة، وكنت أظن أني سأجد دولة الرئيس فارس بك الخوري الذي لا يكلم إلا بعريضة، ولا يخاطب إلا البروتوكول!

وفارس الخوري واحد من المشيخة الأجلاء الذين تعتز بهم دمشق، والذين إن فاخرت إنكلترا بتشرشل، وعمله عمل الشباب وهو في سن الشيوخة، فإن كل واحد منهم تشرشل لنا، لا تفخر بأنه بقي شاباً في عمر الشيوخ، بل بما جمع إلى ذلك من العلم والفضل، والثقافة والعرفان، كالشيخ عبد المحسن الأسطواني علامة الشام الذي لا يزال موظفاً له همة الشباب، وهو (حفظه الله) فوق التسعين، والشيخ كرد علي أبي النهضة الأدبية في الشام، الذي يعمل اليوم دائباً على المطالعة والبحث والتأليف، كما كان يعمل منذ خمسين  سنة، عند ما كان محرراً في (المؤيد)، وفي (المفتطف) من قبله، وكان بصدر مجلة (المقتبس) من بعده، فكانت دعامة ضخمة في صرح نهضتنا الأدبية والعلمية، والشيخ الذي لايزال شاباً يمشى عشرة أميال، وهو يقر أنه في الثمانين، والذي لا يدرى أذهنه أفتى أم روحه أم جسمه، الذي يكتب اليوم وقد كان يكتب من نصف قرن: المغربي، الشيخ القوى الأمين، الذي كان في أول سنة من هذا القرن الهجرى قاضياً في دوما ولا يزال عالماً عاملاً نشيطاً كيوم كان في دوما: سليمان الجوخدار وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبر الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة، ولا توزن بها (شخصيات) هؤلاء الذين ألقت إليهم قوة دولهم مقاليد الأرض، وحكمتهم في رقاب البشر، واعترفوا بأنه حمل مع عبء الثمانين حمل رياسة مجلس الأمن فكان خبر رئيس له وأقواه. هذا وليس وراءه أسطول منه جاءت هيبته، ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما  وراءه إلا أمة صغيرة كبرتها عبقريته، ودولة ضعيفة قوتها (شخصيته)، حق كان صوتها أعلى الأصوات، وكلامها أبلغ الكلام، وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في الكلام، وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن، كما قال الأستاذ الصاوى في (أخبار اليوم).

ولقد عجب الذين لا يعرفون فارس الخوري لما سمعوا أنه لم يقرأ خطبته من كتاب، ولا تلاها من ورقة، بل ارتجلها ارتجالاً ولم يكن في يده إلا بطاقة فيها (خرابيش) بالقلم الرصاص، رآه النقراشي وهو يخطها فحسب أنها مذكرات له في مسائل عادية من مسائل الحياة، فلما رأى أنها هي الخطبة العظيمة التي هزت أضخم هيئة دولية في الأرض، بلغ عجبه من هذا الرجل، وإعجابه به، أبعد حدوده..

أما نحن فلم نعجب، لأن الشئ من معدنه لا يستغرب، وهذا الرجل الذي بدأ يتعلم الإنكليزية قبل أن يولد أكثر أعضاء الوفد المصري في مجلس الأمن، والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقياً مشاركاً في كل فروع الثقافة، وأمده بمنطق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء.

المراجع والهوامش:

(1). نشر المقال في مجلة الرسالة - القاهرة، العدد 740 الصادر في الثامن من أيلول عام 1947



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى