اختيارات المحررمقالات
نورالدين عقيل : حصن مدينة يبرود
نور الدين عقيل – التاريخ السوري المعاصر
في أعلى التلة التي تتوسط مدينة يبرود القديمة (تلة ركامية تدعى تلة القبع) تتربع آثار قلعة أو حصن قديم في أعلاها لاتزال حجارته الضخمة وجزء من جدرانه وعموده الوحيد قائمة وظاهرة للعيان حتى الوقت الحاضر.
وتلة القبع التي يتربع بقايا الحصن في قمتها هي اقدم منطقة سكنية في يبرود، إذ أنها كانت مركز المدينة ونواتها في العصور القديمة، هذه التلة الأثرية الركامية وحتى الآن لم تجر فيها أي كشوف او تنقيبات أثرية علمية رغم اهميتها التاريخية القديمة.
وحتى الستينات من القرن الماضي كانت مكتظة بالسكان بحاراتها وأزقتها الضيقة ومنازلها التراثية القديمة وكان يقدر عدد منازلها بأكثر من مئة منزل، ولكن السكان أخذوا يهجروها بسبب تداعي وتصدع منازلها وحدوث انشقاقات في جدران دورها، ومن الجائز بسبب وجود فراغات أو اقنية او فراغات تحت هذه الأبنية، حتى لم يبق من منازلها القابلة للسكن سوى بضعة عشر منزلاً فقط.
اهم آثار وأوابد هذه التلة والظاهرة للعيان بقايا جدران حصن أو قلعة قدبمة تتربع في أعلى التلة، وتظهر أساساتها الحجرية الضخمة وجزء من جدار مرتفع بجارته الكبيرة وأيضاً عمود حجري قائم واحد من أصل ثلاثة أعمدة كانت قائمة سقط اثنان منها وفي نهاية القرن التاسع عشر.
هذا الحصن بأهميته التاريخية والأثرية وحتى الآن لم يجر فيه أي بحث أو كشف اثري للتعرف على تارخ بنائه او في أي عصر تم إنشائه وعما يخبؤه من اسرار لا زالت مجهولة من أية جهة علمية او تارخية او أثرية.
الإحتمال الأكبر أن بناء الحصن تم في عصر مملكة يبرود الآرامية في الألف الاول قبل الميلاد، هذه المملكة التي ورد ذكرها في كتابات وادبيات مكتبة نينوى عاصمة الآشوريين في شمال العراق في عهد الامبراطورين (شلنصر الثالث وآشور بانيبعل) في الألف الاول قبل الميلاد، وقد يكون الحصن قد كان في عصر بناء المعبد الوثني الكبير المكرس لعبادة إله الشمس والذي تحول فيما بعد الى عبادة جوبيتر كبير آلهة الرومان في العهد الروماني ثم الى كاتدرائية مسيحية باسم القديسين الرومانيين (قسطنطين وأمه هيلانة) بعد انتشار الديانة المسيحية في القرن الرابع الميلادي.
وأيضا قرب بناء الحصن توجد آثار معبد وثني صغير مبني بحجار ضخمة تحول في العهد المسيحي الى معبد باسم القديس (جاورجيوس)، ثم تحول بعد انتشار الاسلام في المنطقة إلى زاوية إسلامية تدعى (زاوية الخضر) يشرف عليها حالياً أحفاد الشيخ صالح الخطيب رحمه الله.
مما لا شك فيه أن تله القبع التي يتربع عليها الحصن هي تلة أثرية كونها كانت نواة مدينة يبرود في العصور القديمة والتي تعود لآلاف السنين ومن ثم امتد العمران على أطرافها شرقا وغربا وجنوبا، ومما يؤسف له انه حتى الوقت الحاضر لم يتم أي كشف أثري عنها من أية جهة أثرية لدراستها علمياً والكشف عما تحتويه من أسرار أو عدمها رغم أهميتها التاريخية والأثرية.
منذ أكثر من ربع قرن تم تكليف عالم الآثار الأمريكي البروفيسور رالف سوليكي أثناء زيارة له إلى سوريا من قبل المديرية العامة للمتاحف والآثار استطلاع تلة القبع وإبداء رأيه بها، وكان لي شرف مرافقته أثناء ذلك مع ممثلي المجلس البلدي في يبرود كل من الأستاذ عمر الحاج يحي ورئيس المجلس، وبعد جولة استطلاعية حول بقايا الحصن وجه الروفيسور سوليكي إلينا سؤالا وهو : كم تتوقعون ان تكون مساحة المنطقة الأثرية ضمن نصف قطر دائرة مركزها الحصن؟
كان جواب الأستاذ عمر : حوالي الخمسين متراً ، وكان جوابي : حوالي المئة متر تقريباً، هنا قال البروفيسور سوليكي : لا بل مئتي متر على الأقل، وقد قدم سوليكي تقريراً يلخص فيه قناعته نتيجة استكشافه للتلة الى المديرية العامة للمتاحف والآثار قبل عودته إلى امريكا، ولم نعرف مامصير ذلك التقرير.
هناك روايات تذكر أن زنوبيا ملكة تدمر في القرن الثالث الميلادي كانت تنقل بلاطها الصيفي من تدمر الى يبرود للاصطياف بها، ومن المحتمل أنها كانت تقيم في هذا الحصن المرتفع والمشرف على مناظر يبرود الخلابة وبساتينها الرائعة وجبالها المهيبة، وهناك أقوال ذكرها بعض المعمرين من أبناء يبرود ان تلة القبع تحوي نفقاً تحت سطح التربة يصل الحصن بالجدول المائي في اسفل طرف التلة الشمالي.
حصن يبرود بحاجة إلى إحدى البعثات الوطنية أو الأجنبية لتحديد زمن بنائه ووضع مخطط له وتقدير مساحته، ولا شك ان تشييده تم في العصر الآرامي حيث كان مركز مدينة يبرود الإداري ومقر حكام يبرود وأيضا مقر الحامية العسكرية المسؤولة عن حماية المنطقة، ولا بد أنه في العصر الروماني جرت بعض التعديلات عليه، ويذكر ان هناك طريقا مستقيماً يمتد من بوابة الحصن الجنوبية إلى الباب الشمالي لمعبد الشمس والمغلق حاليا بقطع كبيرة من الحجارة (كما تظهر ذلك إحدى صور الكاتدرائية المرفقة) .
تعرض الحصن وتلة القبع الأثرية إلى الكثير من التخريب والإعتداءات من قبل الجهلة ولصوص الكنوز والآثار في مختلف العصور، وكان الأكثر تخريباً جرت في السنوات الأخيرة، استغل الأوغاد الأحداث الأمنية وغياب السلطة وقاموا بأعمال الحفر والتخريب العشوائي للبحث عن آثار وكنوز.
حاليا من المفروض الحفاظ على ما تبقى من هذه التلة الأثرية والحصن دون تخريب حتى يأتي اليوم الذي تجري فيه أعمال البحث والكشف والتنقيب العلمي المنهجي من قبل خبراء ومختصين محترفين وبإشراف السلطات حتى نتعرف عما تخبؤه تربة يبرود واوابدها التاريخية.