مقالات
نورالدين عقيل – هجرة أبناء القلمون الى القارة الأمريكية
نور الدين عقيل – التاريخ السوري المعاصر
منذ أقدم العصور عرفت الإنسانية هجرات شعوب وقبائل وافراد من منطقة الى منطقة اخرى في العالم بحثا عن حياة افضل ، ومنذ آلاف السنين انطلقت قبائل وجماعات من شبه الجزيرة العربية على شكل هجرات متلاحقة ومتعددة باتجاه المناطق الأكثر خصوبة والأوفر ماء وحيث استقرت في بلاد الشام وبلاد الرافدين ومصر والشمال الأفريقي ، وشأن هذه الأمة هو شأن الكثيرين من ابناء القلمون الذين غامروا وركبوا البحار والمحيطات وهاجروا الى العالم الجديد وحطوا رحالهم على أرض القارة الأمريكية الغريبة عنهم بيئة ولغة وعادات وتقاليد حيث استقروا في بلدان هذه القارة ، ولكن لم تمض فترة إلا وحققوا وجودا ونجاحا منقطع النظير ، وهذا لأكبر برهان على ماتكنه نفوسهم من حيوية متوثبة وطاقات جمة وإمكانيات خلاقه .
فما الذي دفع شبان وابناء القلمون الى الهجرة والبعد عن اوطانهم ؟ لابد أنها الأوضاع الاقتصادية السيئة التي كانت تخيم على ارض الوطن من فقر وجهل ومرض في ظل الحكم العثماني الذي خيم على الوطن العربي لأربعة قرون وساقه الى العزلة والتخلف والاستبداد، كان الحكام العثمانيون يسلبون الناس قوت يومهم ويسوقون اولادهم الى الخدمة العسكرية الإجبارية ويبعدونهم عن أهلهم وذويهم ويرسلون بهم الى بلاد الاناضول والقفقاس والبلقان او الى اليمن ويزجونهم في حروب ومعارك لاناقة للعرب فيها ولا جمل ، فكان هؤلاء الشبان العرب وقود تلك الحروب والمعارك وقليل منهم من يكتب له السلامة والعودة الى اهله، وإن عاد فهو مثقل بالامراض والعاهات، لهذا كله فضل شبان هذه المنطقة الهجرة فرارا من الفقر والفاقة والاستبداد، ومن الارهاق بالضرائب التي تفرض عليهم، فغامرا وركبوا البحار والمحيطات حتى وصلوا الى بلاد غريبة عنهم في قارة لا يعرفون عنها شيئا ، وحطوا رحالهم فيها.
بعد ان تحملوا مشقة السفر، كان معظم هؤلاء المهاجرين بعد وصولهم الى بلاد الغربة هذه يعملون اولا بائعين متجولين يحملون الكشة (والكشة صندوق يحمل على الظهر بواسطة سير على الكتف ويحتوي على البضاعة والأشياء المعروضة للبيع) على ظهورهم ويطوفون بها في ازقة وشوارع المدن والضواحي والقرى يعرضون بضائعهم ذات الثمن البخس التي لا تتطلب رأس مال كبير ، كانوا احيانا يتعرضون لعناصر الطبيعة القاسية وهجمات الوحوش وقطاع الطرق، يتحملون كل ذلك حتى تثبت اقدامهم وتتمكن ألسنتهم من لغة البلاد ، وكانوا يتخطون الصعاب بمهارة وجرأة وذكاء، ولم تمض فترة من الزمن حتى اكتسب هؤلاء المغامرين ثقة أهل البلاد وسمعة طيبه ، وبعد جمع شيئا من رأس المال تحولوا من بيع الكشة الى تأسيس المتاجر الصغيرة، ثم شيئا فشيئا أخذت تكبر والتي منحتهم ربحا وفيرا كانوا يرسلون بعضا منه لذويهم في القلمون لتعينهم على متاعب الحياة، وكان صدى نجاح هؤلاء المغتربين الأولين يحرك الغيرة لدى الكثيرين للهجرة واللحاق بذويهم واقربائهم ،
فكان المغتربون الاولون يستقبلون اخوتهم وأبناء عمومتهم وبلدهم ويوفرون لهم العمل ويعملون على مساعدتهم على الاستقرار في تلك البلاد ، وفي النصف الأول من القرن العشرين كثرت اعداد المغتربين من ابناء القلمون في بلدان امريكا الجنوبية وجعلوا من هذه البلدان مستقرا دائما لهم ، وتزوجوا وانجبوا الاولاد وأصبحوا من أهل تلك البلاد ، وتكاد لاتوجد اسرة وخاصة في يبرود إلا وبعض أفرادها هاجر واغترب واقام في إحدى دول أمريكا اللاتينية إقامة دائمة ، وبعد مضي السنين اصبحت صلتهم بالأهل في الوطن من خلال الرسائل والحوالات المالية التي كان يرسلها هؤلاءالمغتربين لإعانة ذويهم في الوطن .
وللأسف بعد وفاة الجيل الاول من المغتربين انقطعت الصلات تقريبا مع الاولاد والاحفاد مع وطن آبائهم واقربائهم إلا القليل .
وقد كون المغتربون من ابناء القلمون في بلاد المهجر جاليات عربية ( كالجالية اليبرودية في الارجنتين التي يزيد عدد افرادها اكثر من عشرة آلاف شخص ) ، واصبح لهذه الجاليات انديتهم وجمعياتهم الخاصة .
العديد من ابناء هؤلاء المغتربين أصبحوا من أصحاب الفعاليات الاقتصادية الكبيرة في بلاد المهجر ، ومنهم من شيد الابنية الشاهقة ، ومنهم من شيد المزارع الواسعة ، ومنهم من أقام المصانع والمعامل الضخمة ، وكثير منهم امسك بناصية التجارة الواسع ، والبعض من دخل معترك السياسة ، فأصبح البعض وزراء والبعض رؤساء بلديات والبعض حكام ولايات واعضاء مجالس الشيوخ وأساتذة جامعات واطباء ومدراء مصارف وضباطا في الجيش ومبعوثين سياسيين وموظفين رئيسين ، وحتى أصبح احد ابناء هؤلاء المغتربين رئيسا لجمهورية الأرجنتين ( كارلوس منعم ) .
كما أصبح لبعض هؤلاء المغتربين باع طويل في ميدان الفكر والأدب والصحافة فكانوا فرسانا وأعلاما في ميادينهم حيث غذوا الأدب المهجري بملاحمهم الشعرية ومقالاتهم الأدبية والفكرية والسياسية والقومية ، وجميعهم كانوا يعيشون احداث الوطن بتطوراته واحلامه وآلامه وان أية نكبة تحل بأرض الوطن يتردد صداها في نفوسهم .
ازدادت هجرة القلمونيين قبل وإثر قيام الحرب العالمية الاولى بين عامي 1914 – 1918 م وبعد نشوب الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين عام 1925م .
كان لهجرة ابناء القلمون الى بلدان القارة الامريكية ايجابيات عديدة انعكست على مدن وبلدات القلمون ، إذ أن الأموال التي كان يرسلها المغتربون كانت توفر بعض اسباب العيش الكريم والرفاه لذويهم ، كما أن كثيرا من هؤلاء الأهل كانوا يعتمدون كثيرا على الأموال التي تأتيهم من أبنائهم المهاجرين ، واحيانا كانت جمعيات المغتربين ترسل الاموال لمساعدة تلامذة المدارس من شراء القرطاسية المدرسية والالبسة كما فعلت مثلا الجمعية اليبرودية في الارجنتين عندما تبرعت بثياب الكشافة والآلات الموسيقية لفرقة كشافة يبرود في الخمسينات من القرن الماضي ، وقد ساهمت هذه الجمعية بإنشاء وإنشاء مبنى دار المعلمين الريفية في يبرود في الخمسينات من القرن الماضي ، كما تبرع مغتربوا يبرود في المهجر وعلى رأسهم المرحوم موسي كريم ببناء مشفى يبرود عام 1956م .
كما ان عددا من المغتربين الذين عادوا الى أرض الوطن انشؤوا مشاريع صناعية وتجارية في وطنهم الأم وقد اصبح عدد منهم من كبار التجار والصناعيين في الوطن الأم .