مقالات
محمد شعباني: الصناعة السورية منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 1946
محمد شعباني(1)– التاريخ السوري المعاصر
يُعرَّف النشاط الصناعي من الناحية العمليّة بأنه: النشاط الذي يقوم به الانسان بتحويل مورد من شكل لآخر عبر تغيير خصائصه الفيزيائية أو الكيميائية ليلبي منفعة مختلفة، ولكن مفهوم النشاط الصناعي بالمعنى الضيق يستخدم للتعبير عن نشاط المنشآت التي تستخدم الآلات الميكانيكية ويسود فيها نظام عمل يقوم على التخصص وتقسيم العمل، وبهذا المفهوم المجرد عن التطورات التاريخية للصناعة، فإن سورية من البلدان العريقة في هذا القطاع حيث عرفت منذ القدم بصناعتها الرائجة، كالصناعات النسيجية، والخزفية الزجاجية، فمعامل الكتان والأقمشة والجوخ وصناعة تقطير الاشربة انتقلت إلى أوروبا نتيجة الاحتكاك بالمدن السورية خلال الحروب الصليبية، ومن سورية أيضاً اقتبست الولايات الفرنسية أصول المطاحن الهوائية.
أولاً- الصناعة السورية في القرن التاسع عشر:
بدأت ملامح نشوء الصناعة الحديثة في سورية في القرن التاسع عشر، وكانت تشمل بشكل رئيسي على الصناعة النسيجية، (التي شكلت قاعدة انطلاق الثورة الصناعية في بريطانيا في ذلك الوقت) وتركزت الصناعة السورية الحديثة من الناحية الجغرافية في مدينة حلب ولاحقاً في مدينة دمشق، أمَّا الورش الحرفية، فقد كانت تنتشر في عموم المدن السورية، إلا إنَّها أيضاً تركزت بشكل أكبر في مدينتي حلب ودمشق.
من المؤشرات المبكرة لنشوء وتطور الصناعة الحديثة في مدينة حلب وجود 4 آلاف نولاً يعمل عليها 4800 عامل وألف مصبغة ومطبعة للأقمشة وذلك عام 1838، وبحلول العام 1860 بدأت مصانع انتاج الأقمشة بالظهور بديلاً عن المشروعات الحرفية الصغيرة التي ارتفع عددها من 5 مصانع عام 1860 إلى 60 مصنعاً في عام 1880 بعدد عمال بلغ 5200، وحوالي عام 1910 كان عدد كبير من هذه المصانع متوسطة الحجم التي يستخدم كل منها 30 إلى 50 شخصاً وقد بلغ عدد الشغيلة في هذا الفرع إجمالاً نحو عشرة إلى عشرين ألفاً، وبلغ الإنتاج نحو 2500 طن في عام 1880، ثم ارتفع إلى نحو 5000 طن في عام 1900 و6000 طن في عام 1913 من الحرير الخام.
أمَّا صناعة غزل القطن الحديثة فلم تدخل البلاد خلال مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بسبب تقهقر زراعة القطن من جهة، ومنافسة الصناعة الإنكليزية خاصة من جهة ثانية، إذ بلغت مستوردات سورية من الغزل القطني الإنكليزي 5000 طن سنويا حوالي العام 1913. أمَّا على صعيد الإنتاج النسيجي فيلاحظ حصول تقدم من ناحية تطور وسائل الإنتاج، فقد أُدخِلت إليها آلات جاكار ومصانع حديثة مع آلات عاملة على البخار، كذلك أدخلت صناعة التريكو والجوارب التي استخدمت الماكينات الفردية بشكل واسع حتى بلغ عددها 8000 ماكنة في مدينتي حلب ودمشق وحدهما .
كذلك عرفت سورية صناعة الزيوت بالآلات الحديثة، أهمها المكابس الآلية التي وجد منها نحو 600 إلى 800 معصرة تشغل الواحدة منها 10 إلى 20 عاملا، يُضاف إلى ذلك مصنعان يستخدمان الطريقة الكيمائية في تكرير الزيوت في حوالي 1910، وفي صناعة الصابون كان هنالك حوالي 150 مصبنة تستخدم تقنيات حديثة، وتنتج نحو 20 الف طن سنوياً، يصدر 40% من إنتاجها إلى البلدان المجاورة، وذلك قبيل عام 1914 أيضاً، كذلك عرفت صناعة الطحين تحديثا ميكانيكياً فقد أدخلت إليها المحركات الميكانيكية والتي انتشرت بشكلٍ واسع لاسيما في مدينة حلب التي وجد فيها 55 مطحنة في عام 1913.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أُشئَت مطحنتان حديثتان وعدد من مصانع المعجنات والبسكويت وكان يخصص جزءاً من انتاجها للأسواق المجاورة كما أنِشئ معملان حديثان للتبغ يستخدم كل منهما 200 شغيل. يضاف إلى ذلك انتشار المئات من الورش والمحال الحرفية في المدن التي تنشط بحرف وصناعات مختلفة .
ثانياً- الصناعة السورية خلال الفترة (1918-1946):
باشرت الصناعات تشق لنفسها الطريق إلى الأمام بعد الحرب العالمية الأولى، فتطورت صناعة النسيج نتيجة استيراد مئات الآلات التي تدار بالقوة الكهربائية، وأنتجت الاقمشة الحريرية الطبيعية والاصطناعية التي تحاكي الأنسجة الأوروبية، وأسست أول ورشة عمل ميكانيكية لإنتاج النسيج في أوائل العشرينات القرن الماضي في مدينة حلب ، وذلك على الرغم من كل المعوقات التي فرضتها إدارة الانتداب الفرنسي على القطاع الصناعي السوري. وما يشير إلى ازدهار الصناعة في سورية لاسيما المدن الداخلية والكبرى وتحديداً في مدينة حلب هو الارتفاع الكبير في عدد المشتغلين في الصناعة وعدد الآلات العاملة في مجال الصناعة وتنوع الفروع الصناعية.
ففي مدينة حلب فقط والتي لطالما كانت المركز الصناعي في سورية بلغ عدد المشتغلين في سبعة فروع صناعية عام 1929 أكثر من 34 ألف عامل وعاملة؛ هي الصناعة النسيجية والصباغة والسختيان والجلود والحبال والامراس من القنب والقرميد والأسمنت وصناعة الروباص والقصب، وما يؤكد أنَّ الطابع العام للمدينة كان صناعياً بامتياز هو نسبة عدد المشتغلين في الصناعة في حاضرة المدينة إلى إجمالي أعدد السكان البالغ حسب إحصاءات عام 1925 (210 آلاف نسمة) أي عدد المشتغلين في هذه الفروع الصناعية السبعة يعادل 49% من إجمالي القوة العاملة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الصناعة النسيجية احتلت مركز الريادة في النشاط الصناعي لمدينة حلب، إذ بلغ عدد الانوال في صناعة النسيج القطني والحريري والنسيج الصوفي ما بين 6000 إلى 6500 نولاً. وبلغت نسبة المشتغلين في الصناعة النسيجية إلى إجمالي المشتغلين في الصناعات المذكورة أعلاه حوالي 86% في عام 1929.
ارتفع عدد العاملين في مجمل القطاع الصناعي في مدينة حلب خلال سنتين فقط وفي عام 1931 لحوالي 69307 ألف عامل وعاملة، إلا إنَّ أعدد المشتغلين في الصناعة حسب إحصاءات 1929 لا تشتمل على جميع الصناعات، ولكن يمكن احتساب نسبة نمو عدد المشتغلين في الصناعة النسيجية ما بين العامين فتكون النتيجة أنَّ معدلات النمو تصل إلى 8.3% حيث بلغ عدد العاملين في هذا القطاع لوحده لحوالي 30240 عامل أي بزيادة 5240 عامل وعاملة، وفي عام 1934 ارتفع عدد الانوال إلى 7000 نول بالإضافة 134 نولاً من الانوال الحديثة المستوردة من فرنسا وذلك في مدينة حلب فقط .
خلال فترة الحرب العالمية الثانية حققت البرجوازية السورية نمواً سريعاً بسبب من انقطاع العلاقات الاقتصادية مع الخارج نتيجة ظروف الحرب وصعوبة انتقال البضائع وتحول دول الحلفاء إلى الإنتاج الحربي، فقد تمكنت البرجوازية السورية عبر الإنتاج الكثيف في قطاعي النسيج والأغذية، لتلبية متطلبات السوق المحلية ودول الجوار بالإضافة إلى قوات الحلفاء، من تحقيق تراكم رأسمالي وصل إلى 500 مليون ليرة سورية في عام 1946 (لتقريب القيمة الفعلية للمبالغ المتراكمة فإنها تساوي بالأسعار الثابتة ما يقارب الــ 3.5 مليار دولار ).
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ التراكمات الرأسمالية الناجمة عن الفائض الاقتصادي المحلي انعكست في توظيفات رأسمالية جديدة في مختلف القطاعات الاقتصادية والمدن السورية حيث وصل عدد الأنوال الميكانيكية في حلب عام 1948 لأكثر من ألف نول لصناعة النسيج الحريري معظمها مستورد من فرنسا. بالإضافة إلى ستة آلاف وأربعمائة نول يدوي حديث..ونشأت أيضاً صناعة التريكو والملبوسات الداخلية والجوارب، فيما كان عدد المغازل القطنية في سورية قبل الحرب العالمية الثانية يصل إلى 10200 مغزلاً جميعها في حلب، فإن عدد المغازل القطنية في سورية وصل إلى أكثر من 85000 ألف مغزلاً منها 80 ألف مغزلاً في حلب و5 آلاف في دمشق.
إلى جانب عدد آخر من الصناعات كصناعة النسيج المصوف في دمشق الذي كان إنتاجها يحاكي الجوخ الإنكليزي، وصناعة البروكار في دمشق والآغاباني في حلب والمنسوجات الشرقية للمفروشات والدامسكو في دمشق وحلب، والسجاد والبسط وصناعة الحبال والامراس والخيوط من القنب في وصناعة الإسمنت في دمشق. كما انتشرت صناعة البلاط والموزاييك والكونسروة والمحفوظات الغذائية في دمشق. والسكاكر والمربيات والشكولاتة والكراميل والملبس والمعكرونة في ودمشق وحلب. ومعامل الزبدة والاجبان ومنتوجات الحليب والنشاء في عموم سورية، والمطاحن في كل من دمشق وحلب وحمص، والمصابن وأكثرها في حلب.
ومن ناحية أخرى ورغم غلبة المشروعات الفردية والعائلية على المشاريع الصناعية فقد شهدت تلك الفترة توجه التوظيفات الرأسمالية الجديدة توجهاً نحو تأسيس الشركات المساهمة، ففي دمشق تأسست شركات مساهمة لصنع الزجاج ولقد تأسست شركات مساهمة في دمشق لصنع الزجاج والألواح الحجرية والكرتون والمستحضرات الطبية والقطن المعقم والأدوات المنزلية كالمكاوي والسخانات والمدافئ وخلافها. والصياغة والتجليد واحجار المطاحن والمعاصر، والمصافي، بالإضافة لشركة لصناعة السكر والمنتجات الزراعية وهي شركة مساهمة مركزها دمشق ويقع معملها في حمص. كذلك تأسس في حلب شركة مساهمة للزيوت تنتج مختلف الزيوت النباتية .
في ضوء ما سبق، يمكن الاستخلاص أنَّ الصناعة السورية عرفت خلال أقل من نصف قرن قبل الاستقلال تطورات نوعية في سماتها وخصائصها، من حيث إدخال الآلات الحديثة إلى الصناعات التحويلية الرئيسية، وهي الصناعة النسيجية والصناعة الغذائية، بالإضافة إلى تنوع المنتجات في هذين الفرعين وتوسعه، كذلك يلاحظ خلال هذه الفترة الانتشار الجغرافي للصناعة السورية إذ لم تعد تقتصر على مدينتي حلب ودمشق، بل بدأت بالانتشار في مدن حماه وحمص واللاذقية، فضلاً عن ذلك لم يعد طابع الملكية يقتصر على المشروعات الفردية والعائلية، بل انتشرت الشركات المساهمة في مختلف الفروع الصناعية.
(1) محمد شعباني باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية
المصادر والمراجع:
المجموعة الاقتصادية السنوية لغرفة تجارة حلب 1937-1948، المطبعة المارونية، ص 15.
المجموعة الاقتصادية السنوية لغرفة تجارة حلب 1947- 1948، المطبعة المارونية، ص 15- 19.
المجوعة الاقتصادية السنوية لغرفة تجارة حلب من عام 1929 حتى 1937، المطبعة المارونية، 1938، ص 45-55.
Geoffrey D. Schad, “Colonialists, Industrialists, and Politicians: The Political Economy of Industrialization in Syria, 1920–1954” (Ph.D. Diss., University of Pennsylvania, 2001, p44.
المجموعة الاقتصادية السنوية لغرفة تجارة حلب من عام 1929 وحتى 1937، مرجع سابق، ص 119- 127.
ف. ب. فيكتوروف، اقتصاد سورية الحديثة، ترجمة هشام الدجاني، أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي، دار البعث، التاريخ غير معروف، ص 24.
المجوعة الاقتصادية السنوية لغرفة تجارة حلب لعام 1937- 1948، مرجع سابق، ص20.