مقالات
رفيق العظم: انتخابات مجلس المبعوثان – الأمة العثماني عام 1912
عمدت قوى المعارضة في الدولة العثمانية إلى دمج أحزابها في حزب معارض لجمعية الاتحاد والترقي وتحت اسم (حزب الحرية والائتلاف). وشن هذا الحزب حملات عنيفة ضد سياسة الاتحاديين المركزية.
تصاعد هذا التيار وتحت الضغط وافق السلطان على حل المجلس وأصدر إرادة بذلك في الخامس من كانون الثاني 1912 تقضي بحل مجلس المبعوثان وإجراء انتخابات جديدة.
نشطت قوى المعارضة قبيل الإنتخابات في الترويج والدعوة إلى حزب الحرية والائتلاف المناوئ لجمعية الاتحاد والترقي، وضمن هذا الإطار نشر رفيق العظم مقالاً في صحيفة المفيد دعى فيها إلى مظاهرة ومساندة حزب الحرية والائتلاف في انتخابات الدورة التشريعية الثانية (المشروطية الثانية)(1).
نص المقال:
رفيق العظم: انتخابات مجلس المبعوثان – الأمة العثماني عام 1912(2).
كلما كانت الأمة مهتمة بأمر الانتخابات لنوابها، ولكما حمي وطيس الحرب الانتخابية في قطر كان ذلك دليلاً على تمكن روح الدستور في جسم الأمة مبشراً بحسن مستقبل البلاد.
وقد علمتنا التجارب في انتخاب النواب الماضي لمجلس الأمة العثماني في دوره الأول أن العثمانيين كانوا أقل إهتماماً بالانتخابات منهم في هذا الدور لحداثة عهدهم بالحياة الدستورية وعدم وجود الأحزاب السياسية التي تتدافع في ميادين العمل للانتخاب وتتباين في مذاهب الإصلاح ما عدا حزب الاتحاديين الذي كان سبب الإنقلاب، وكان دهش الأمة بعمله من دواعي مجاراتها له في ذلك الانتخابات.
ولقد كان جل المنورين وأهل الرأي من العثمانيين يرون أن ما بلغته الدولة في الدور الماضي من الانحطاط المؤذن بانحلالها العاجل لا علاج له إلا تغيير شكل الحكومة والاحتذاء حذو الممالك المتمدنة الراقية في تنظيم الحكومة على أصول الشورى والدستور وتشييدها على دعائم الحرية والإخاء والمساواة.
ولما نهضت جمعية الاتحاد والترقي بأعباء هذا العمل ودكت صروح الحكم المطلق حمد أولئك العقلاء والمنورون عملها وقدروا قدر صنيعها، وأيقنوا بنجاة الدولة من الانحلال المزمع أن يصيبها من سوء الإدارة الماضية حتى إذا أديلت إليهم السلطة وقبضوا على أزمة الأمور ظهر منهم من ضعف الرأي الناشئ عن عدم التجارب ما أوجس له خيفة كل من كان ممجداً لعملهم وأقصي عنهم كل من كان محباً لهم شديد الأمل بحسن النتيجة من وراء الانقلاب الذي كان أثراً جميلاً من آثارهم.
ذلك لأنهم انتهجوا من السياسة الداخلية والخارجية منهجاً التوي بالدولة عن الغاية التي يطمح إليها نظر العقلاء وتصبو إليها نفوس المخلصين فأغضبوا الشعوب العثمانية، وأغضبوا الدول الأوربية التي كانت ترى في إعلان الدستور في المملكة العثمانية خير حل للمشكلة الشرقية يطوى به خبرها ويزول خطرها بما تؤول إليه حال العناصر العثمانية من الرفاه والراحة والأمن والطمأنينة في كنف الحكومة الدستورية، وربما تصير إليه المملكة من المنزلة الراقية في الإدارة والقضاء والجندية، وكل وسائل الفلاح التي تجعل مركز الدولة منيعاً لا مطمع فيه لأية دولة أوربية تريد الإخلال والتوازن الأوربي في الشرق الأدنى.
أغضبوا هذه الدول لأن كل هذه النتائج لم يتحقق منها شيئ بسبب الخطة العوجاء التي سلكها الاتحاديون في سياسة المملكة إذ جعلوا الدستور وسيلة لاستئثار فئة منهم بالسلطة لا خبرة لها بشؤون الدولة ولا معرفة لها بمناهج السياسة.
ومما ضاعف الخطر وأوجب تغيير رأي الدول في الاتحاديين وحكومتهم وجود جماعة سرية منهم لا تزال تدير الحكومة تحت طي الخفاء إلى اليوم وهو مالا نظير له في حكومة من أي شكل كان، وقلما تكسب حكومة هذا شأنها ثقة دولة من الدول، ولقد كانت حكومة الدور الماضي تدار بيد سلطان له من السلطة على شؤون الدولة ما لا تحد، ومع هذا فلم تكسب حكومته ثقة دولة من الدول في أمر من الأمور فلم نتمكن ولم يتسن له الدخول في الاتفاقات الدولية الأوربية التي عقدت بين الدول في الثلاثين سنة الماضية.
ولقد ذكرت مرة لأحد كبار ساسة الألمان ما يخامر نفوس العثمانيين من جهة حكومته، وصداقتها السطحية للسلطان التي تمن بها على الدولة، وقلت له ما بال الحكومة الألمانية إذا كانت صادقة في صداقتها للدولة لا تنجدها في الأزمات السياسية بالفعل لا بالقول كما كانت تنجدها حكومة إنكلترا أيام صداقتها للدولة العثمانية.
قال لأنه ليس بيننا وبينها مخالفة رسمية، قلت فما بالكم لا تضمنونها إلى محالفتكم الثلاثية ففكر هنيهة وأجاب من الأسف أنه ليس عندكم حكومة يوثق بها، وبقولتها نعقد معها عهداً على الهجوم والدفاع.
وسواء صدق في اعتذاره أو لا فإن الثقة إذا توفرت أسبابها في الحكومة توجب بالضرورة اعتماد الدول عليها، واحترام منزلتها وحقوقها لسوء سياسة الحكومة الماضية الذي أفقد هذه الثقة فيها وضع من منزلتها حتى عند الألمانيين الذين كان امبراطورهم وحكومتهم أصدقاء السلطان السابق وحكومته كما يظنون.
ليس من عثماني يحسن أو يشعر إلا وكان يعتقد أن ثقة الدول بالدولة العثمانية واحترامهن لها ولحقوقها، ثم سلامتها من الأخطار المحدقة بها آذنة بانحلالها لا يكون إلا إذا تغير شكل الحكومة وقامت في المملكة العثمانية حكومة دستورية تؤيد كلمة الحق والحرية والمساواة بمعناها الصحيح وتمحو كل أثر من آثار الاستبداد الذي أوهن جسم الأمة والملك والدولة، وتكون محل ثقة الدول واعتمادها.
وقد رأينا من تباشير هذا الاعتقاد وتحقق نتائجه في مبدأ إعلان الدستور بتقدير الشعوب الأوربية لعملنا ومناصرة بعض الدول لنا ما يبرهن على صحته لو قدر الاتحاديون قيمة العمل الذي قاموا به، ولم ينحرفوا عن الجادة، ذلك الانحراف الذي أوجب انقضاض الناس ومن حولهم ويأس الدول من استقامة أمور هذه الدولة وتجديدها عهد المشاكسة والمعاكسة، والمداخلة في شؤون الدولة كما كان ذلك في الدور الماضي.
ولقد كتبنا كثيراً، وكتب غيرنا في تنبيه الاتحاديين إلى الخطيئات التي ارتكبوها في السنين الأربع الماضية، وأن تطبيق بروغرامهم السري من نحو تتريك العناصر وحصر السلطة واستعمال القوة في سياسة الشعوب العثمانية وتأييد سلطتهم بالإرهاب وإطلاق يد أفراد منهم في التسلط على شؤون الحكومة لا خبرة لهم ولا تجارب عندهم ثم إغفالهم بعض الدول ومحاباتهم للبعض الآخر بلا روية ولا تبصر كل هذا يكون في نظر الشعوب العثمانية ونظر الدول الأوربية منكراً لا يوافق حالة العصر ولا يساعد على إنقاذ الدولة من هوة الاضمحلال التي أشرفت عليها بل هو بالعكس لا يزيد أحوال الدولة إلا ارتباكاً واضطراباً ولا يزيد الدول الطامعة فينا إلا تهماً والمؤملة في انتظام أمورنا إلا بأساً.
نبهنا إلى خطيئات الاتحاديين هذه لا لغاية كما يشهد الله إلا الرغبة في سلامة الدولة والوطن.. وكأين من مخلص لهذا الوطن قال كقولنا ونادى نداءنا فلم يسمع له نداء ولم يعمل له بقول لأن القابضين على زمام الأمور من حزب الاتحاديين بلغ بههم الاعتداد بالنفس وحب الأثرة والتمادي في الغرور مبلغاً قل أن ينجع فيه دواء إلا وجود حزب قانوني قوي يشاطرهم الرأي وينافسهم السلطة كي تكون دولاً بين المتنافسين تدال تارة إلى هذا وإلى ذلك تارة أخرى حسب مشيئة الأمة التي تضع ثقتها حيث ترى مصلحتها إلا حسب مشيئة الأفراد.
وبعد فقد برهنت الأمة العثمانية اليوم على أنها سئمت سلطة الحزب الغالب وأحست بخطر سياسته وضررها بنهوضها للأخذ بناصر الحزب الجديد “حزب الحرية والائتلاف” الذي تأسس على مبدأ الحرية الصحيحة والمساواة القاضية بحفظ حقوق العناصر، والاحتفاظ بخصائص الأقوام العثمانيين فحق على السوريين المعروفين بالإخلاص لدولتهم الراغبين بسلامتها وبقائها أن يكونوا في الانتخابات الحاضرة على بصيرة من أمرهم وتيقن من مبدأ من ينتخبونه ومسلكة فلا يضعون ثقتهم بعير المنتسبين إلى الحزب الجديد الحريصين على حياة الدولة العاملين على بقائها بأقرب الوسائل إلى الحق والحرية والعدالة وأدناها من الديمقراطية المعتدلة التي لا بقاء لاستقلالنا بدون قط.
إني أدعو قومي إلى مظاهرة هذا الحزب لا لمطلق المناوأة للحزب الآخر ولا لأني اعتقد اعتقاداً جازماً بأن السعادة كل السعادة بمظاهرة الحزب الجديد بل لأني أرى أن تعادل قوى الأحزاب ضروري الوجود في كل مملكة دستورية، وأن انحصار السلطة في حزب واحد لا فرق بينه وبين انحصارها في شخص واحد وكلاهما من دواعي الأثرة والاستبداد.
وقد جربنا سياسة الاتحاديين الماضية ورأينا نتائجها التي لا تسر فلنجرب سياسة غيرهم عسانا نستطيع النهوض بهذه الدولة، وعسى أن يكون هذا وسيلة لتقويم أود الغاضبين على زمام الأمور اليوم حتى إذا عادت إليهم السلطة فلا يعملون إلا بما ترضاه الأمة فيكون أصلح لسياسة الدولة وليعلم العثمانيون أن مسئلة الانتخابات هذه المرة مسئلة موت أو حياة وليس بعد التجربة من نذير وها نحن أولاً نشاهد من الأزمة الطرابلسية والأزمة البلقانية مالا مزيد بعده للاعتبار فإن تهجم إيطاليا على ثغورها واغتيالها ولاية من ولاياتنا، وتحفز الدولة البلقانية للوثوب ثم وقوف الدول بإزاء هذه المخاطر وقفة المحايد وسكوتها على اعتداء الطليان حتى على مرافقها في بلادنا كل هذا نتيجة من نتائج السياسة الخارجية التي اتبعتها الحكومة ولا يعلم إلا الله ماذا يصيبنا من جرائها إذا استمر الحزب الغالب قابضاً على زمام الأمور، أصلح الله قلوبنا وسدد خطي رجالنا إلى ما فيه إنقاذنا من هذه المخاطر آمين.
(1) السوريون في مجلس المبعوثان – الدورة التشريعية الثانية (المشروطية الثانية) 1912
(2) صحيفة المفيد- بيروت، العدد 923 الصادر في يوم الأربعاء السادس من آذار عام 1912م.