من الصحافة
صحيفة 1918- ماذا خسرت سورية؟
تناولت صحيفة لسان الحال الصادرة في مطلع تشرين الثاني عام 1918 حالة الجوع والفقر والظلم التي يعاني منها المجتمع في سورية، وتحدثت عن نتائج هذه الحالة وانعكاساتها على السوريين مثل خسارة الصدق في التعاملات التجارية، أو تصاعد الفساد وغيره من الأمراض الإجتماعية.
نص الافتتاحية:
(قدر للبلاد السورية أن تكون ميداناً للفظائع وساحة تتدافع فيها السيئات فذهبت الأحكام بحياة الكثيرين من الأدباء الناهضين، ومشى الجوع مشيته في أنحائها فتساقط الفقراء في منعطفات الشوارع وجوانب الطرق، ومر بهم حكامهم السابقون الظالمون الغاشمون ذاهبين إلى الولائم الحافلة بما لذ وطاب وهم يهزأون ويقولون ان موت الثلث في سبيل سلامة الثلثين أمر لا بد منه في مثل هذه الحرب.
ولو نظرنا إلى الثلث الثاني الذي قادت الحكومة البائدة افراده قسراً إلى ساحة القتال لعلمنا أن ليس نصيب هذا الثلث بأحسن من نصيب الثلث الأول من الحياة لأن قواده امتصوا دماءه بامساكهم عنه القوت والميره وبيعهم ما تقاضوا الأمة باسمه من الحاجيات لتتسرب اثمانها إلى جيوبهم فمات من مات والذي قدر له أن يعيش عاد إلى بيته هازلاً مريضاً تتسابق الأمراض في جسمه إلى القضاء عليه.
أما الثلث الثالث فقد ناله من الظلم ما ناله وقاسى من العذاب مالا يطاق ولا يحتمل ما عدا الأفراد الذين اشبهت عواطفهم وتربيتهم عواطف أولئك السفاحين وتربيتهم فكان الفريقان يداً واحدة على قتل هذا الشعب التاعس، وكانت خسارة الشعب السوري من النفوس خساره عظيمة لا يمكن تحديدها وكل ما يقال فيها تقدير يقرب من الحقيقة لأن مسألة الإحصاء مثل بقية المسائل الأخرى في عهد الحكومة البائدة لا أثر لها وليس فيها أدنى بيان يرجع إليه في مثل هذه الأمور.
وإذا شكونا من الحالة الفقرية التي انتهت إليها هذه البلاد وأكبرنا الخسارة المالية فيها فلنا الأمل بتخفيف وطأة الفقر بما يلاقيه الفقراء من عطف الحلفاء واحسانهم إلى أن تدب القوة فيهم فتعود حركة العمل إلى ما كانت عليه ولاسيما إذا انصرف هذا الشعب إلى الزراعة وعلى الزراعة تتوقف حياته الاقتصادية بعد اليوم وهذه بلاده من أخصب بلاد الله وفيها من الأنهار ما ينبت له منه الخيرات الطيبات.
غير أن هنالك خسارة عظيمة لا يمكن أن تعوض حالاً وهي ما نريد من عنوان هذا المقال – هذه الخسارة هي خسارة الأخلاق الطيبة التي تداعت أركانها في النفوس وقام مقامها الفاسد من الأخلاق.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أجل لقد خسرنا العواطف الشريفة واستعضنا بصلابة القلوب والوقاحة ولا تزال اثار الاحتكار والمحتكرين ناطقة بهذا التغيير.
وخسرنا الاجتهاد والرغبة في العمل وقام في نفوسنا بدلاً منها حب الراحة وأصبح أكثر البيوت أندية للمقامرة وشبباننا يقضون ساعاتهم بين الفرشخ والأص بدعوى السلوى وما يسمونه “تقطيع الوقت”.
وخسرنا الصدق في المعاملات الاقتصادية وناب عنه الطمع فالتاجر يحتال على المشتري والدائن يكذب على مديونه ويأخذ منه العهود الرسمية بما يقابل دينه ويزيد عليه أضعافه والمديون يكذب على الدائن ويرهن أملاكاً لاحق له فيها.
وخسرنا عزة النفس التي داستها المطامع وحل محلها الذل والحطة فلا يطلب الضعيف حقه إلا بالتماس وطلب الرحمة والشفقة.
وخسرنا وخسرنا مالا سبيل إلى حصره وما كسبناه من أجل خسارته سبة الدهر، فإلى مداواة هذه الأمراض الخفية الفتاكة ندعو مفكري الشعب والحكومة، وإلى نزع الخصال الشريرة نوجه أنظار الشعب قبل أن تتأصل فيه المبادئ التي ذهبت الحكومة البائدة وتركتها للتاريخ اثراً يشهد بأخلاقهم وتربيتهم)(1).
(1) صحيفة لسان الحال – بيروت، العدد 7665 – 17 الصادر يوم الجمعة الأول من تشرين الثاني عام 1918م.