إياد محفوظ – التاريخ السوري المعاصر
من أعلام الشهباء .. الحاج باكير فكرة مستت
(1889 – 1979)
ولد في حي العقبة العريق سنة (1889) لأسرة حلبية معروفة تجلّ العلم والتقى والاستقامة، والده الحاج محمد سعيد مستت كان من تجار المدينة البارزين، يعمل في تجارة القمح والحبوب (مال قبان)، في أحد أسواق حلب العامرة.
بداية تلقى تعليمه في الكتاتيب على غرار ما كان سائداً في تلك الحقبة، على أنّه سرعان ما انخرط في المدارس العامة، وأظهر حباً للعلم وشغفاً في امتلاكه، وإزاء حصوله في نهاية العقد الأول من القرن العشرين على شهادة الثانوية العامة في المكتب الإعدادي السلطاني (ثانوية المأمون) بحلب أرسلته أسرته لمتابعة دراسته الجامعيّة في الكلية العسكرية في الأستانة (إستنبول) عاصمة الدولة العثمانيّة.
انضم إلى جيش السلطنة بعد أن حصل على شهادة عليا في الرياضيات والعلوم الهندسية – قسم سلاح المدفعية، وهو من أهم الاختصاصات العسكرية في بداية القرن العشرين، حيث شارك في الحرب العالمية الأولى (السفر برلك) التي بدأت عام (1914)، وفي حرب (جنق قلعة) عام (1915)، كضابط برتبة (يوزباشي طوبجي)، أي نقيب في سلاح المدفعيّة، وقد كان مسؤولاً خلال تلك المعارك عن كتيبة تضم إثني عشر رأساً من الخيل، تختصّ ستة منها في جرّ المدفع، ويقع على عاتق المجموعة الأخرى من الأحصنة سحب الذخائر والمواد التموينيّة، إضافة إلى أنّ عدداً وافراً من الضباط والجنود كانوا تحت إمرته.
في أيام الانتداب الفرنسي عزف عن الانضمام إلى المؤسسة العسكريّة المنضوية تحت سلطة المحتل، وفضّل العمل في مهنة التدريس، فأمضى شطراً طويلاً من حياته وهو يعمل أستاذاً لمادة الرياضيات في المكتب السلطاني (ثانوية المأمون)، ومسؤولاً في الوقت نفسه عن القسم الداخلي في المدرسة لسنوات عدّة.
ظهر الحاج باكير فكرة مستت في أغلب الصور التي تضم الكادر التدريسي للتجهيز الأولى المنشورة في الكتب التراثيّة الحلبيّة الصادرة حديثاً، والتي أرّخت تلك الفترة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر صورة تعود للعشرينيّات من القرن الماضي، يظهر فيها مجموعة من المدرسين والأعيان مع مرعي باشا الملاح (حاكم حلب) آنذاك، منشورة ضمن كتاب مائة أوائل من حلب لصاحبه الباحث الأستاذ عامر رشيد مبيض، المجلدان الأول والثاني، الصفحة (203).
تعدّ فترة الاستعمار الفرنسي من الفترات المهمة والمجيدة في تاريخ ثانوية المأمون، حيث دأب هذه الصرح العريق على تخريج عقول مناهضة لوجود المحتل الفرنسي على الرغم من التضييق الشديد الذي فرضته السلطات الفرنسية المحلية، والإجراءات التعسفية الدائمة، وكان جدّي واحداً من أولئك الذين اعتادوا تحريض التلاميذ على الإضراب والتظاهر إزاء إشارة من زعيم الأمة المجاهد إبراهيم هنانو، الذي كان يطلقها من شرفة منزله المطلة على المدخل الرئيس للتجهيز الأولى.
غير أنّ أساتذة الثانوية بما فيهم جدّي كانوا يبادرون إلى تعويض تلامذتهم، عبر إجراء دروس مسائية، بعيداً عن أنظار المسؤولين التابعين للمحتل.
عاد والتحق بالجيش العربي السوري إثر الاستقلال برتبة شرفيّة وهي (رئيس)، وكان بلغ عمره آنذاك (57) عاماً، وقد تحول اسم هذه الرتبة لاحقاً إلى (نقيب)، وشغل منصباً إداريّاً، ساهم من خلاله مع أقرانه من الضباط المخضرمين في تأسيس الجيش الوطني الوليد، وتنظيم إداراته وتأهيلها، وقد أحيل إلى التقاعد وهو في رتبة رائد عام (1950).
كما أنّه يعدّ واحداً من مؤسّسي رابطة المحاربين القدماء في حلب، وقد بادر مجلس إدارتها إلى تكريمه كواحد من الرواد المؤسّسين لها ضمن احتفاليّة أقامتها الرابطة في بداية القرن الواحد والعشرين، كرّمت فيها عدداً من أعضائها المؤسّسين.
تزوج من السيدة الفاضلة (نهيدة فرّا) عام (1920)، والدها الحاج محمد فرّا أحد التجار المعروفين في سوق المديْنة التاريخي، أنجب منها فتاتين، الكبرى (وجيهة)، عملت مدرسة إثر حصولها على شهادة الثانوية العامة في بداية الأربعينيّات من القرن الماضي، قبل أن تقترن بالدكتور علي رضا السنكري عام (1947)، والصغرى (عزيزة)، فضّلت أن تكون ربّة منزل، والاكتفاء بالوصول إلى المرحلة الثانوية، حيث تزوجت من الدكتور جميل محفوظ في عام (1951).
بعد عمر مديد حافل بالعطاء على المستويين المهني والإنساني، انتقل الحاج باكير فكرة مستت إلى جوار ربه بهدوء وسكينة، في منزله بحي الجميليّة الكائن في شارع القدسي، أمام ثانوية المأمون بتاريخ (23/09/1979)(1).
(1) وردت هذه الترجمة في كتاب حكايات الجميلية – تأليف إياد جميل محفوظ.