بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في أوائل الستينات من القرن الماضي وفي قريةٍ نائية من قرى الريف الحلبي إفتتح أبو جمعه دكاناً بجوار منزله إقتطعها من داره السكنية وحشد فيها كلّ ما يلزم لأهالي القرية من مواد غذائية متنوعة وخضار ومنظِّفات وأدوية للصداع ومضاد إسهال وأنواع عديدة من السجائرالمعروفة في تلك الأيام من (بافره وريجي وصمصون وأبو دفره!!) وباكيتات دخّان سجائر اللف (غازي وحموي) ودفاتر الشام والشموع إضافة إلى القرطاسية واللوازم المدرسية والحبال الليفية وحصيرة من التمر .
إستيقظ أبو جمعه صباحاً وقام بِرَشِّ الماء أمام دكانه وقعد ينتظر زبائنه. دخل طالبٌ في الصف الثالث فإشترى قلم رصاص ماركة ( التمساح) وورق ملون للأشغال ومقصّ وعُبوة صمغ وبَكرة لزّاق وكرتونة بيضاء ليقصَّها ويصنع منها أشغالٌ في الصف، ودفع الثمن ليرة وعشر قروش وخرج .
ثم دخل طالبٌ آخر في الصف الخامس فاشترى زُجاجةَ حِبر لتعبئة قلم (الستيلو) ودفتر رسم وعلبة أقلام تلوين خشبية وممحاة ومبراة ومسطرة خشبية ودفع ليرة ونصف وانصرف ،
بعدها بدأت الخضار من نتاج القرية تتوارد إلى الدكان من ( قرع وبندوره وباميا وفليفلة )، دخلت الحجه فطّوم الدكان ووضعت صِرَّةً من البامياء أمام أبو جمعه قائلة : بكم تشتريها اليوم ؟
قال : بثماني فرنكات ، قالت : ( اي لا ياه . هاتهم سأعملهم مونةً لمنزلي اكسب لي !! ) وحملت الصِرَّة فناداها : طوّلي بالك .. سأشتري منك الكيلو بنصف ليرة تكرمي، رضيت الحجه فطوم وانصرفت ، ثم دخلت طفلةً في سن العاشرة واشترت (ابر ملاحفيه) لخياطة بِطانةَ الّلحف وطابات خيطان، وخيطان (كشَّه) لخياطة رقع البنطلونات.
ثم دخل بعدها شابٌ واشترى سردينة من نوع ( أبو شنب) وشفرات حلاقه (ناسيت) وحبوب (اسبيرين) ودفع ليرة ونصف وانصرف ، دخل بعده طفلٌ يحمل طاسةً نحاسية فإشترى نصف كيلو غرام من اللبن بثلاثين قرشا ، ونصف كيلو غرام من (الصّفية الإفرنجية) وهي بودرة بيضاء (صودا) اخترعت بديلاً عن (صفية التنّور) تستعمل لشتى أنواع التنظيف . واشترى علكةً عليها صورة الرئيس عبد الناصر وعائلته ، واشترى كعكتين سخّانه ودفع ليرة ونصف وانصرف.
دخلَت بعدهُ طِفلةٌ اشترت سكّر دروبس مطعَّم وبسكويت أصابع ( وبزّ ملهايه) لشقيقها الرضيع وعبوة من (زيت الخروع) ودفعت ثلاث أرباع الليرة . أما جاره الحاج حمدو فاشترى باكيت دخّان (غازي لفّ ) ودفتر (شام) وقدّاحة فتيل ودفع ليرةً وربع الليرة. ثم دخلت بعده جارتُه (الحجّه أمّون) فاشترت مصيدة فئران خشبية ، فقد أغار الفأر على مؤونتها من البرغل والسميدة وعاث فيها فساداً . واشترت أيضاً مكنسة قشّ من نبات (المكنس).
ثم دخل معلِّم في مدرسة القرية فإشترى باكيت دخان نوع أول (بافره) وكبريتة ماركة (المدفع) وخرج إلى الدوام مسرعاً. واشترى حلاّق القرية ( شبَّة وكريصة وشفرات ناسيت وخيطان ) وعبوة صغيرة من (القطرونه ) وذهب ، ثم دخلت الحجّه فريده وسألته : هل عندك شحّاطات ( كرِّمك الله) ؟ فقال لها : لا والله عندي قباقيب خشبية (أعزِّك الله).
قالت : اريد قبقاباً للمرحاض ( كّبُرتَ عن سيرته !! ) إشترته ووضعته في كيسٍ ورقيّ وخرجت.
ليدخل بعدها ( الحاج علي ) المعروف في القرية بشرب الشاي الثَّقيل ، فسأل أبو جمعه عن شاي أصلي ماركة (زهرة السلطان) فاعتذر لنفاده ووعده بأن يوصي عليه من مدينة حلب ، واشترى سائقُ سيّارة القرية باكيت دخان نوع ( غليظه تاتلي سورت ) وقدّاحة تعمل على زيت الكاز، واشترى كوزاً من البزر والقضامه وانصرف ، دخلت بعده طفلة بيدها زجاجةً وسألته : هل عندك زيتُ كاز ؟؟
قال لها : بكم تريدين ؟ ، قالت : بنصف ليرة . فوضع القمع في الزجاجة وسكب فيها الكاز من التنكة ذاتُ بلبولةٍ ، وطلبت منه شيشة لمصباح الكاز (نمره4) فقال لها : عندي ( شيشةً أرمنازيةً ) ثمنها نصفُ ليرة وشيشة أميركية أصلية ثمنها ليرة ونصف الليرة ، من أيها تريدين ؟؟
قالت : اعطني ( أم النصف ليرة ) وأريد أيضاً شبر فتيلة ( للضوّيه ) ، حملت كيس الأغراض وانفتلت خارجة فناداها : إلى اين ؟ لم تدفعي لي نقوداً !! قالت : قال أبي سجِّلهم على الدفتر ، فمطَّ شفتيه وأخرج دفتَرَهُ المضمَّخ بخيرات الدكان وسجَّل فيه الأغراض بقلم الرصاص.
دخل صبي صغير يحمل سلَّة بيضٍ قائلاً : عمو أتشتري بيضاً بلدياً ؟ .
قال : نعم أشتري لكن السبع بيضات بنصف الليرة ، قال الصبي : أبيعك الستة بنصف ليرة ، ( تازايات عمو من قنّ الحجّه زلخه ) ، قال له : هاتهم !!، ثم حضرت ابنته فتناولت رأساً من الزهرة( القرنبيط ) ومشت ، قال لها : إلى أين يا نور العين ؟ قالت : أُمي ستطبخَهُ اليوم ، قال لها : لعن الله طين القرنبيط ولعن ساعته، (يخرب بيتو) أوله منافع وآخره مدافع !! خدي هذه البندورة لترمي عليها أمّك برغلاً وبصلة وزيت وتطبخ لنا اليوم( مغمومه).
يمضي النهار فيغلق أبو جمعه دكّانه ويترك شمعةً موقدةً في الدكان فهناك حالات شراء إضطرارية في الليل من حضور ضيف أو نفاذٍ لزيتِ كازٍ أو طفلٌ ممغوصٌ يحتاج الى ( زيت الخروع ) فلا مندوحة حينئذٍ من فتح المحل وقيام أُم جمعة بمهمة البيع ، بينما يكون ابو جمعه مضطجعاً مغمضَ العينين وليس بنائم ، يفكِّر بالذهاب في الغد إلى مدينة حلب ليجلب المزيد من المواد اللازمة للدكان .
انظر:
بدر الدين تلجبيني: ساحةُ العيد
بدر الدين تلجبيني: جوّالون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: وليمة عرس في أعزاز ..
بدر الدين تلجبيني: وقفة عيد الفطر في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: معقب معاملات في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: بائعون رائعون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: رحلة الى السينما في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز