شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – محاولة ضرب الحركة الشعبية في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14 /133)
من مذكرات أكرم الحوراني – محاولة ضرب الحركة الشعبية في حماة
يتابع أكرم الحوراني في مذكراته سرد تفاصيل محاولة ضرب الحركة الشعبية في حماه ودور ما وصفه بنظام القوتلي:
بدأ نظام القوتلي يشعر بالخطر من المعارضة الجادة التي انتهجناها في المجلس النيابي، فصمم على تقويض الحركة الشعبية التي نقودها في مدينة حماة، بالاعتماد على الأسر الإقطاعية وتدعمها بأجهزة الدولة ولو أدى ذلك إلى إراقة الدماء، مع تكتيل النواب الموالين في المجلس ودفعهم أيضاً في هذا الطريق، وبصورة خاصة نواب العشائر. مما سترد تفاصيله فيما بعد، وهكذا حاولوا منذ البداية أن يخرجوا صراعهم مع المعارضة عن طابعة السياسي الديمقراطي إلى طابع العنف والقسوة.
سرحت الحكومة محافظ حماة خيري رضا المسالم وغير الموثوق في تمثيل هذا الدور، وعينت مكانه سامي البكري الذي يشبه شكري القوتلي، ولكنه كان أقل ذكاء وفيه سذاجة ملحوظة، ولما سأل رئيس الملقي سعد الله الجابري رئيس الوزراء عن سر هذا التسريح والتعيين المفاجئ أجاب بأن خيري رضا كان متعاوناً مع الفرنسيين، هذا بالوقت نفسه الذي أصدر فيه سعد الله قراراً بتعيين بهيج الخطيب مديراً للداخلية وهو أكبر المتعاونين.
كانت المدينة هادئة وراضية وفخورة بمواقف نوابها في المجلس، لاسيما وأن غالب العظم، على قلة اهتمامه ونشاطه أخذ يسلك في البرلمان الخط الوطني المعارض الذي كنا نسلكه، وقد شعر القوتلي والجابري باللعبة الذكية التي أراد أن يلعبها رئيف الملقي بتفاهمه مع غالب العظم، بعد أن ظهرت نوايا عمه فريد العظم بتهيئته ابنه عبد الرحمن ليحل محل غالب بعد أن أنجز دراسته الجامعية في اليسوعية.
كان غالب العظم مغلوباً على أمره، لأنه مختلف مع أبيه، ولأنه كان فقيراً بالنسبة لأعمامه، وكان حقوقياً ولكنه لم يمارس مهنة المحاماة بل كان منصرفاً إلى شؤونه الزراعية ولذلك لم يجرؤ على التمرد، في انتظار نهاية مدة المجلس للعودة إلى أعماله الخاصة.
بعد تعيين سامي البكري محافظاً لحماة فتح فريد العظم “منزولاً” أسماه “بيت الشعب” وأخذ أحمد العظم وناصح العظم وفخري الكيلاني ومصطفى أبو السعود الكيلاني والمحامي أحمد سلطان.. الخ “يوالون اجتماعاتهم فيه بصورة منتظمة، وقد قرروا وضع خطط جديدة يتمشون عليها في إجتماعتهم ومراجعاتهم للحكومة والدوائر الرسمية وخلافها من الأمور”النصر: 17 / 1944”.
وسرعان ما أصبحت كل أجهزة الدولة في المحافظة تحت تصرف “بيت الشعب”. واستقر المحافظ سامي البكري في منزل فريد العظم حيث كانت تقام الولائم والحفلات والدعوات، وراحت أجهزة الدولة تتدخل بالكبيرة والصغيرة وتشتد بالتضييق على أبناء المدينة في مراجعاتهم وعلاقاتهم بالدوائر الحكومية، كما أصبحت قوى الأمن تتلقى أوامرها من منزل فريد العظم، وصدرت جريدة “الفداء” لصاحبها “محمد الحافظ” الذي كان مستأجراً لفندق أبي الفداء الجاري بملكية بلدية حماة لتشن حملة إعلامية قاسية ومستمرة على الحركة الشعبية، كما دفعت الحكومة أحد أساتذة الأدب العربي “عثمان شققي” لإصدار مجلة “النواعير” التي وضعت نفسها بصورة مباشرة في خدمة الحكومة.
هنا يصح التساؤل : هل كان الإنكليز وراء تشجيع القوتلي وآل العظم في محاولتهم القضاء على الحركة الشعبية بحماة!
ان تشجيع البيوتات الإقطاعية كان من أسس السياسة الاستعمارية البريطانية القديمة والثابتة في المنطقة، كما أن الليدي سبيرز والجنرال سبيرز كانا يترددان بكثرة على حماة حيث ينزلان بضيافة فريد العظم في بيته، على أن تطور الأحداث فيما بعد سيكشف عن صحة ذلك التساؤل الذي لم تغفل عنه القيادات الشعبية في حماة آنذاك.
جنبنا في البداية الدخول في هذه المعركة، ولكن آل العظم دفعوا زلمهم المسلحين للاعتداء على أنصارنا، بدعم وتأييد قوى الشرطة والدرك، وتطور الحال فصاروا يعتدون بالهجوم على بيوت أنصارنا في حي الحاضر مستهدفين استسلامهم أو تهجيرهم من هذا الجزء من المدينة. واستمرت هذه المناوشات الدامية عدة أسابيع وأصبحت أحياء الحاضر كساحة حرب ليلاً نهاراً، وقد صمدت الأسر الشعبية كآل عبد الرزاق، والعقاد، والخاني وغيرهم، تؤازرهم بعض الأحياء الأخرى من الحاضر كحي السخانة والمناخ، وكان لرفاقنا الشباب الطلاب دور بارز في هذا الصمود.
ولما أرسل آل العظم زلمهم المسلحين إلى ساحة العاصي يطلقون الرصاص إرهاباً للمدينة انطلقت المظاهرات الصاخبة ضد المحافظ المسؤول عن هذه الفتن الدامية، فتجمع عشرات الألوف من أبناء المدينة في ساحة العاصي يهتفون بسقوط المحافظ سامي البكري فكان يطل عليهم من شباط غرفة مكتبه دون أن يرف له جفن.
خرجت أنا ورئيف الملقي للاحتجاج، باسم المتظاهرين، على موقف الحكومة ومسؤوليتها في هذه الحوادث الدامية، وكانت هتافات المتظاهرين تشق عنان السماء بتسقيط المحافظ “أكال اللحم الأبيض” إشارة إلى أكله لحم الدجاج على مؤائد فريد العظم.. وما أن دخلنا غرفته حتى هتفت اليه زوجته من دمشق لتطمئن عليه فأبلغها على مسمع منا، بكل بساطة، أنه قادم إلى دمشق يوم الجمعة، وطلب إليها أن تعد له أكله “قوزي” فانفجرت ضاحكاً، فالتفت إلى مستغرباً ولم يدرك السبب.
ومع ذلك فإن الفتنة لم تنته، بل استمر سامي البكري، بدعم من القوتلي والجابري، بتنفيذ هذه الخطة في ذلك الظرف الدقيق، فأصدر أوامره لقوى الشرطة والدرك في المحافظة بالتجمع لاحتلال بيت الدكتور توفيق الشيشكلي الذي كان يسمى “بيت الأمة” فداهمته بكامل قواتها ليلاً فهبت المدينة غاضبة وأحاطت بهذا البيت وحالت دون احتلاله. كانت ليلة مشهودة، ولم تجرؤ قوات الأمن، أمام هذه السيول الدافقة من المواطنين على احتلال بيت الأمة.
وهكذا انقلب السحر على الساحر، إذ أن تلك المعارك، بدلاً من أن تحقق هدفها، وحدت الصف الشعبي ومتنت الأواصر وأزالت كثيراً من الحساسيات السابقة والختلافات الجانبية في صفوف الشعب، وجعلت من حزب الشباب وجماعة الملقي قوة متماسكة.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني (132) – ما في عيش بلا جيش
من مذكرات أكرم الحوراني (131) – مصلحتا الميرة والأعاشة
من مذكرات أكرم الحوراني (130) – وزارة دفاع بلا جيش
من مذكرات أكرم الحوراني (129) – صعود نجم المعارضة
من مذكرات أكرم الحوراني (128) – قضية الجيش مرة أخرى
من مذكرات أكرم الحوراني (127) – المنطلقات المنحرفة لعهد شكري القوتلي منذ بدايته
من مذكرات أكرم الحوراني (126) – كل الصلاحيات، بلا جيش، لا تساوي بصلة
من مذكرات أكرم الحوراني (125) – أساس مفاسد النظام البرلماني الديمقراطي
من مذكرات أكرم الحوراني (124) – تشكيل لجنة العشائر (أواخر كانون الأول عام 1943)
من مذكرات أكرم الحوراني (123) – إستلام الحكومة السورية الصلاحيات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (122) – إقدام في لبنان وتخاذل في سورية
من مذكرات أكرم الحوراني (121) – لماذا وهبت سوريا الأقضية الأربعة للبنان؟
من مذكرات أكرم الحوراني (120) – دور المجلس النيابي في قيادة الحركة الوطنية
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: