بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في القديم حين كنا أطفالاً ، كان يوم العيد بالنسبة لنا يوم الأحلام ، نرتدي فيه بنطالاً جديداً ، وقميصاً ناصع البياض ، وحذاءً جديداً ينام معنا في الفراش ليلة العيد نشتمّ رائحة جلده قبل أن يلامس أرض الشارع . إستيقظنا صبيحة يوم العيد وذهبنا مع والدي إلى الصلاة في المسجد ، ثم عدنا إلى المنزل وأفطرنا بدل الشاي والجبنة وعلى غير العادة لحماً ورزاً ولبنيَّة . ارتدينا بعدها ملابس العيد وانطلقنا في جولة على الأعمام والعمّات ، والأخوال والخالات ، لتحصيل العيدية وجمع الفرنكات .
وقد اعتادت أُمي أن تستقبلنا بعد عودتنا من جولة المعايدة ، فتلقي الحجز التنفيذي على عيديتنا ، وتقسمها على عدد أيام العيد وتعطينا مصروف كل يوم بيومه ، وذلك بهدف ترشيد الإنفاق ولكي لا نصرف عيديتنا كلّها في يوم واحد . كان هذا الأمر يعكِّر صفونا ، وينقص من بهجتنا ، فكم كنا نتمنى أن نذهب إلى ساحة العيد مباشرة ومعنا كامل العيديّة لكي تتاح لنا فرصة شراء المسدسات وأطايب الأكلات وأجمل البالونات .
وفي أحد الأعياد قررنا أنا واخوتي أن نفعلها ، فلم نعد إلى البيت بعد انتهاء جولة العيد بل هربنا بنقود العيدية الى ساحة العيد ، وليكن ما يكون . كانت الساحة تعجُّ بالأطفال والبسطات التي تحوي كل ما تشتهيه الأنفس من مسدسات وبالونات ملوَّنة و ( فشك طابو ) و فتّاش من مختلف الحجوم والبوظه والكازوز واوراق النصيب بأسماء المحافظات ،
ومنذ دخولنا بدأنا بصرف الفرنكات واستفتحنا الأمر بركوب المراجيح الخشبية المربوطة بالحبال ، ثم قمنا بشراء كل ما خطر لنا على بال ، وبقينا على هذا المنوال حتى نفد ما في جيوبنا من مال . وهنا ذهبت السكرة وأتت الفكرة ، كيف سنعود الى المنزل بدون العيدية ؟ وما الذي سنقوله لأمي ؟ وهل تسامحنا على صرف كامل مبلغ العيدية ؟ وكيف سندخل الى المنزل بهذه الحال ، وكيف سيكون حساب امي لنا والسؤال ،
كان أخي الصغير ( سامر ) في الخامسة من عمره يجري خلفنا وهو يبكي ، فقد أنفق كل ما في جيبه من نقود ، وسرقوا له مسدسه الكبسون ، وأسرف في أكل الشوكولا وشرب الكازوز ، واندلقت كازوزة ( ستيم ) حمراء على قميصه الأبيض فاصبح خارطة من الألوان ، حامض حلو ولفّان !! فمشى معنا يرندح ويبكي ، وهنا خطرت لنا فكرة وهي أن ندخله قبلنا الى المنزل فتصبّ أمه جام غضبها عليه وهي بالتأكيد لن تضربه ، وعندما تنتهي من لومه وتقريعه ندخل نحن فتكون قد خبت نار ثورتها ، فننال الحدَّ الأدنى من العقوبة .
أدخلناه أمامنا ووقفنا على الباب ننتظر ، ومنذ دخوله افترش الأرض أمام أمه وبدأ يبكي ويشكي ، ودار بينه وبين امه الحوار التالي :
– شرّفت أخيراً سامر بيك …؟ هربتم بالعيدية اليس كذلك ؟؟ ما هذا المنظر ( اش مساوي بحالك ولاك ؟ )
– أخذوا لي العيديه .
– من أخذها ؟؟
– أخي احمد ، اشترى لي فيها ( مسدس كبسون )
– اين مسدس الكبسون يا حنون ؟ ( ماني شايفتو )
– (سرقولي ياه ..)
– من الذي سرقه ؟؟
– ابن الجيران أخذه مني .
– واين اخوتك الملاعين ؟ وأين باقي العيديه ؟
– ركبتُ بها الأُرجوحه واشتروا لي كازوزة .
ـ وسكبتَها على قميصك أليس كذلك ؟ ، اين باقي العيديه ( ولاك ) !! صرفتها بالكامل يا ملعون اليس كذلك .؟ .
– اشترى لي أخي أحمد (علك وفتاش ) ، وضربت بالنصيب فربحت بالوناً .
– اين البالون ؟؟
– انفجر ..!!
– انفجر ..؟ . يبدو لي أنني أنا التي سأنفجر ، انقلع من امامي لعنة الله عليك وعلى اخوتك الملاعين .!!. ادخل واخلع هذا القميص .. لا يلبق لكم الجديد يا نَوَر !! أين إخوتك ؟
وهنا دخلنا المنزل خطوة إلى الأمام وخطوة الى الخلف ، فاستقبلتنا أمي بموشح ، وعملت لنا زفَّة لكنها كانت أخف مما تصورنا ، إذاً فقد نجحت خطتنا واستنفذ اخي سامر جزأً كبيراً من غضبها فاكتفت بتهديدنا والتوعد بالعقوبة .
مرَّت الأيام ، وكبرنا ونسيَت أمي موضوع العقوبة ، لكننا لم ننسى ساحة العيد ، ولبس الجديد ،ويوم جميل عامرٌ باللذات ، قضينا فيه أجمل اللحظات .
انظر:
بدر الدين تلجبيني: جوّالون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: وليمة عرس في أعزاز ..
بدر الدين تلجبيني: وقفة عيد الفطر في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: معقب معاملات في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: بائعون رائعون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: رحلة الى السينما في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز