مقالات
نورالدين عقيل: نبذه عن التعليم التقليدي في مدينة يبرود
نورالدين عقيل – التاريخ السوري المعاصر
نبذه عن التعليم التقليدي في الكتاتيب حتى منتصف القرن العشرين في مدينة يبرود.
تميزت مدينة يبرود في الماضي البعيد والقريب بالعلم والتعلم ، فقلما تجد في الأسرة الواحدة قديماً، من لا يتقن القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم، وكان التعليم عن طريق المدارس الرسمية التي تفتحها الدولة او المدارس التي تفتحها البعثات التبشيرية التي نشطت منذ منتصف القرن التاسع عشر في يبرود والقلمون ، الى جانب هذه المدارس كانت الكتاتيب أيضا تلعب دورا كبيرا في تخليص الناس من الجهل والأمية وحتى أواخر منتصف القرن العشرين.
كان القائمون ومعلمو هذه الكتاتيب بعض شيوخ الدين المعروفين وبعض أنصاف المتعلمين ممن اتخذوا هذه المهنة سبيلا للارتزاق الى جانب مهامهم الدينية ، وقد نقل إلي أن من بين أشهر كتاتيب هؤلاء الشيوخ كان كتاب الشيخ أحمد المغربي الذي ورث المشيخة والتعليم والكتاب عن والده المرحوم محمد المغربي ذو الأصل التونسي ، وأيضا كان من أصحاب الكتاتيب الشيخ بهاء الدين ياسين الذي كان بارعا ومشهودا له في الخط العربي المتقن ، وأيضا كان من أصحاب الكتاتيب الاستاذ حسن مدخنة والشيخ حسن حسني وامرأة دمشقية استوطنت يبرود في العشرينات من القرن العشرين تدعى خيرت خانم الأورفلي التي اختصت بتعليم البنات القراءة والكتابة والقرآن الكريم الى جانب تعليم مهنة الخياطة والتطريز للفتيات.
كما اذكر كان احد الكتاتيب التي عاصرتها منذ كنت صغيرا هو كتاب المرحوم الشيخ احمد المغربي الذي كان خطيبا وإماما لمسجد وجامع الرويس في حي القامعية ، وقد ورث الشيخ أحمد عن والده إجادة الخط العربي حيث كان خطاطا بارعا ومجيدا كما مهر بصناعة حبر الكتابه وتجليد الكتب أيضا ، وقد نقل الشيخ احمد الى تلامذته إتقان وحسن الخط وجماله.
كان كتاب الشيخ احمد كما أذكره يستقبل الأولاد الذكور من سن الخامسة وحتى الرابعة عشرة من العمر ، يتعلمون القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وبعض مبادئ الحساب ، صغار السن يداومون طيلة أيام السنة صيفا وشتاء ، أما كبار السن فكانوا يداومون في فصل الشتاء فقط لأنهم مجبرون على مساعدة أهاليهم في الأعمال الزراعية في الصيف وحتى انتهاء مواسم الزراعة والفلاحة وقطاف العنب ..
غرفة الكتاب كانت عبارة عن حجرة كبيرة المساحة تتسع لجلوس حوالي الخمسين تلميذا يجلسون على حصيرة على الأرض أمام الشيخ والذي بدوره يجلس على دكة خشبية مرتفعه قليلا تعلوها جلد خروف وأمامه منضدة قليلة الارتفاع عليها أدوات الكتابة وخلف الشيخ سبورة سوداء على الحائط والى جانبه عصا طويلة من نبات القصب ليطال بها أبعد التلاميذ لديه إذا اقتضى الأمر ولا تخلو قاعة الدرس هذه من ملزمة خشبية لمعاقبة التلميذ المشاغب او المقصر في الحفظ أو كتابة الوظائف حيث يشد بها أيدي التلميذ أو يرفعه فلقة على القدمين بمساعدة تلميذ كبير من تلامذته كعقوبة من العقوبات المشهور بها الشيخ احمد.
كان تلاميذ كتاب الشيخ أحمد متبايني الأعمار والاشكال ، الصغار يجلسون في المقدمة والكبار في الخلف ، وكان الشيخ يبذل اقصى جهده لتعليم الجميع كل حسب مستواه أصول الكتابه والخط الجيد والقراءة وحفظ آيات القرآن الكريم وبعض مبادئ العمليات الحسابية الأربعة.
كان من المفروض على كل تلميذ أن يجلب معه كل يوم خميس ما تسمى الخميسية وهي عبارة عن كمية من الحبوب أو الزبيب اوالبيض او الجوز لشيخه ، اما في فصل الشتاء فعلى التلميذ أن يأتي كل يوم ومعه قطعة من الحطب لإيقادها في مدفأة الكتاب لتدفئة الجميع، وما يزيد لتدفئة منزل الشيخ ، والويل والثبور لمن يتخلف عن ذلك ، وكان الشيخ يتلقى أجوره من أهالي التلاميذ بعد جني المحاصيل الزراعية من مواد عينية مثل الحنطة او البطاطا او الزبيب او البقوليات او الدبس او البرغل وغير ذلك لقاء جهده مع أولادهم وتعليمهم، وكانوا يقدمون له ذلك عن طيب خاطر لبذله الجهد الكبير في تعليم اولادهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم ، كما يقدرون جهده وصبره الكبير على اولادهم، وكان حينها للشيوخ مكانتهم عند العامة واحترامهم وتبجيلهم حيث كانت وظيفتهم حينذاك مقتصرة على الأمور الدينية ودروس المساجد وتعليم الصغار.
كان تلميذ الكتاب عندما يتقن القراءة والكتابة والخط الجيد وحفظ القرآن أي ينهي تعليمه يجري بعدها إحتفال تخرجه من الكتاب بما كان يدعى حينها إحتفال (الختمية)، قبل ذلك يقوم شيخ الكتاب بإرسال عريف الكتاب وهو اكبر التلاميذ سنا الى منزل التلميذ لإعلام ذويه بأن الشيخ يبلغهم أن ابنهم قد انهى تعليمه وختم القرآن الكريم.
وقبل ذلك يسر الشيخ خفية الى العريف أن يخطف إحدى حاجات التلميذ كالمحرمه او الطاقية بدون انتباه ذلك التلميذ، وبهذا يكون قد علم (بتشديد اللام) عليه، بعد إعلام ذوي التلميذ يقوم والده او من يقوم مقامه بزيارة الشيخ وشكره وتحديد موعد حفلة ختام القرآن.
وقبل ظهراليوم المحدد يحضر الى الكتاب أحد افراد اسرة التلميذ حيث يتم فرش طاولة الشيخ بغطاء قماشي مزخرف ويثبت على أطرافه بعض قطع من أرباع او أنصاف الليرات الذهبية ويوضع المصحف على الطاولة التي يحملها عريف الكتاب الى جانب الشيخ والتلميذ المحتفى به ثم يصطف التلاميذ بالخلف وهم يرددون بعض الأناشيد الدينية في طريقهم الى منزل التلميذ المحتفى به وذلك بعد صلاة الظهر ، وعند الوصول الى باب دار التلميذ يقوم اولياء ذلك التلميذ والجيران باستقبال الجمع بالترحيب والزغاريد ، وبعدها يطلب الشيخ من التلميذ قراءة بعض سور القرآن الكريم أمام ذويه غيابيا ليؤكد حفظ ابنهم للقرآن، ثم يتناول الجميع طعام الغداء ويختم الشيخ الاحتفال ببعض الادعية، وفي اليوم التالي يقوم الأهل بإهداء الشيخ ما تجود به أنفسهم من قمح وبرغل وسمن وزيت وكشك ودبس وبطاطا وغيره كحلوان ختمية ابنهم واحتفالا بختم ابنهم للقرآن ويستردون علام ابنهم الذي يحتفظ به الشيخ حتى ذلك الحين . والتلميذ الذي يختم القرآن في ذلك العهد يبدو وكأنه قد نال الشهادة الجامعية حسب مفهوم ذلك العصر.
الواقع إن لشيوخ الكتاتيب هؤلاء فضل كبير في تخليص أبناء المسلمين ممن لم يتيسر لهم دخول المدارس ، من الجهل والامية وحفظ القرآن الكريم وإجادة القراءة والكتابه.
وكان أغلب تلاميذ الكتاتيب يلتحقون بالمدارس الإبتدائية ويتفوقون على اقرانهم واحيانا يختصرون بعض الصفوف الأولى بسبب إجادتهم القراءة والكتابة.
وستبقى ذكرى تلك الأيام بالخير ورحم الله الشيوخ الأفاضل وكل من سعى وجاهد وعمل في سبيل تعليم أبناء بلده من معلمين في المدارس او مشايخ الكتاتيب.
انظر:
نورالدين عقيل: نظام الري القديم في يبرود
نورالدين عقيل: رمضان في ماضي يبرود
نورالدين عقيل: أشهر الحلويات الشعبية في يبرود
نورالدين عقيل : خميس الأموات ونوبات المشايخ في ماضي يبرود