بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
الزمان شتاء عام 1960 في اليوم الاخير من أيام شهر رمضان ، وبعد ان تناولت العائلة طعام الإفطار، جلس أبو حمدو يقلب في محطات المذياع منتظراً إعلان ثبوت العيد، وفجأة يقطع المذيع نشرة الأخبار ليعلن رؤية هلال شوال وأن يوم الغد هو اول ايام العيد .
قفز الأطفال فرحين، وظهرت علائم البشر على وجه أبو حمدو فنادى زوجته: ام حمدو تعالي واسمعي .. ثبتوه ..!! . أجابته : بإمكانك الآن ان ( تكيّف ) وتنبسط ، اسفي عليك يا رمضان !!
ودوَّت في سماء البلدة ثلاث أصوات مدافع معلنة العيد ، فأعلنت ام حمدو الاستنفار فوراً وأوعزت الى بناتها بالإسراع بإنجاز عمل المطبخ ، والإستعداد للبدء بمشروع كبة العيد ، ورفعت يديها الى السماء تدعو وتبتهل إلى الله أن يرسلوا لها ولدها العسكري ( حمدو ) بإجازة لتكتمل بهجة العيد .
بعد العشاء خرج أبو حمدو وأبناءه إلى السوق لشراء لوازم العيد حاملين ( الشناتي) الجلدية، و المطر يهطل بغزارة فتجري المياه في الشوارع سواقي وأنهاراً ، دخلوا السوق وقرع المطر يسمع على سقفه التنكي المتهالك ، وساروا يتحاشون الماء المتسرب من خلال شقوق السقف والذي أحال أرض السوق إلى بركة من الطين ، كان السوق مزدحماً وصوت ام كلثوم يتردد في ارجاء السوق عبر اجهزة ( الراديو) : (حبيبي يسعد اوقاته .. الليلة عيد عالدنيا سعيد) فتشيع البهجة في النفوس ، وتخفق القلوب لإستقبال العيد ، وقد وضع البعض من أصحاب الدكاكين منقل نار مشتعل امام دكانه واجتمع حوله المقرورون يلتمسون الدفء عبر مد الكفوف .
توقف ابو حمدو عند احد الجزارين يتأمل شقة لحم :
ـ هل هذا خاروف ؟ بكم الكيلو ؟
ـ الأجير : بليرتين .
ـ ابو حمدو : ليرتين ؟؟!! البارحة كان بليرة ونصف يا رجل ، ـ ـ ـ الأجير : البارحة ذهب مع البارحة يا عم .. اليوم اسعار الخروف بالنار ..
يتفحص ابو حمدو شقة لحم اخرى :
ـ ما هو وضع هذه ؟
ـ يرد عليه المعلم من داخل المحل : هذه شقة (جدي ) يا ابو حمدو ، الكيلو بليرة ونصف ، ولحمه متل الفستق ، اتريد من الأجير ينزلها لك ؟؟
يتأملها ابو حمدو ثم يقول للأجير : أنزلها .!! . يدفع ثمنها للجزار ويتركها عنده . ويذهب ليكمل جولته في السوق ، فيرى الزحام على محلات بيع ألبسة وأحذية الاطفال ، فيحمد الله أنه اشترى البسة العيد للأولاد باكراً ، ومر بسوق الخياطين الذين يغالبون النعاس في سبيل إنهاء خياطة البدلات والبنطلونات للزبائن لتكون جاهزة قبل صباح العيد . يتوقف ليدردش مع جماعة من اصحابه فيقول له احدهم : اراك مبتسما اليوم يا ابو حمدو .؟؟
فيجيبه : اي والله الحمد لله صمناه بخير وسلامة ( ويقبل ظاهر يده ).يرد عليه : وهل سلم اهل البيت من عصبيتك هذه المره ؟
يرد : احيانا كان يطير معي الغطاء وأجعل عاليها سافلها .. ( ويضحك ضحكة مجلجلة ويشير الى السيجارة في يده ) : كل الحق على هذه الملعونة فإن عقلي بدونها بلا مسامير !! ويضحكون ..ويردد احدهم : اسفي على رمضان فقد رحل سريعاً ، ما أحلى ايامه . يسحب ابو حمدو نفسا عميقا من سيجارته ويتمتم : هو من ناحية ( حيف عليه ) نعم يا سيدي .. ويرمي بعقب السيجارة ليستل واحدة اخرى ويشعلها على الفور ، ويودعهم ويتوجه نحو بائعي لحم البقر فيشتري هبر العجل والشحمه من اجل الكبه ، ثم يمر فيشتري السكاكر والبزورات ويمر ويأخذ لحمة الجدي من عند القصاب ..فتمتليء ( الجناتي) بما لذَّ وطاب من أطعمة العيد ، ويعود وأبناءه الى المنزل بعد ان توقف هطول المطر ، فيمرون بدكاكين الحلاقين المكتظة بالزبائن يحتسون الشاي وقد علت ضحكاتهم ، وأطفالٌ يدخلون الفرن حاملين صواني سوداء ( صيجان ) مليئة بالكعك والمعمول .ويخرجون وهم يحملون ( صيجان ) فارغة .
ويصل أبو حمدو الى المنزل فتبادره ام حمدو :اراك تأخرت ..انشغل بالي .
يرد عليها ابو حمدو : ( مالذي يدريني .. أعطيني الراديو لأسمع هل عيدت مصر ؟؟
تبدا ام حمدو وبناتها في صنع كبة العيد وتقوم احدى البنات بتدوير ماكينة الكبه اليدوية التي استعاروها من الجيران وتحضّها والدتها : ( يالله روحي يالله ( برافو عليكي ، هاهاه .. خلصنا..) سأقول لأبيك أن يعطيك ربع ليرة .
ويمضي ابو حمدو في تقليب محطات المذياع بحثاً عن أخبار العيد في الدول العربية ودخان السيجارة يتخلل شاربيه فقد قرر السهر حتى الصباح ، وفجأة يطرق باب الدار فتهتف ام حمدو : ان لم يخب ظني فهذا شقيقكم حمدو ، ويدخل العسكري (حمدو ) فتشرق الفرحة على الوجوه ، وترتاح النفوس ، فبحضور حمدو اكتملت عناصر الفرح في منزل ابو حمدو ،
انظر:
بدر الدين تلجبيني: معقب معاملات في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: بائعون رائعون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: رحلة الى السينما في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز