بطاقات بحث
الولاءات المتضاربة في سورية بين مؤسسة اللجان الشعبية والجماعات القومية في كتاب صدر حديثاً
الولاءات المتضاربة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع أفول شمس الإمبراطوريةDivided Loyalties: Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire كتاب يقدم منظورًا جديدًا ومختلفًا لموضوع القومية في البلدان العربية، ويشرح دور المجموعات غير النخبوية في السياسة القومية في الشطر الأول من القرن العشرين. ويعتمد مصادر غير مستخدمة سابقًا، فيوثق ظهور شكل جديد من التنظيم السياسي – اللجنة الشعبية – التي انتشرت في مدن سوريا الكبرى وقراها في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
المؤلف هو الدكتور “جيمس ل. غيلفين” مؤرخ وأكاديمي امريكي بارز حائز على الدكتوراة من جامعة “هارفرد” عام 1992م، الأستاذ الجامعي المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر.
يقع الكتاب في 464 صفحة وترجمه إلى العربية الباحث والمترجم عمرو الملّاح، وصدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2022م.
يمثل هذا الإنتاج العلمي الجديد رؤية جديدة بشأن البناء الرمزي للمجتمعات الوطنية من خلال اعتماده على مصادر تقليدية وغير تقليدية نادراً ما تستخدم في دراسات علمية مثل اعتماده على المنشورات والكتابات على الجدران والخطب والشائعات والافتتاحيات، وكذلك تحليل الاحتفالات – الوطنية، والتظاهرات، والمسرح.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: بنية المنظمة السياسية في سورية الفيصلية
يتألف القسم الأول في الكتاب من الفصلين الأول والثاني، وقد عاين فيهما المؤلف “تأجيج الشعور الوطني” وتشكيل اللجان، وقد ركز النقاش بشأن القومية على الشروط الأساسية المسبقة اللازمة لانبثاقها.
وذلك، على الرغم من أن ضرورة انتشار البنى والعلاقات المرتبطة بـ “الحداثة الكلاسيكية” لا تكفل ظهور النزعة القومية بين السكان. فالنزعات القومية تتطلب قيام حركات قومية، أو المخاطرة بضرب ما هو واضح؛ إذ يستحيل تحقيق القومية من دون قوميين. ولم يكن المسار التطوري الذي اتخذته اللحظة القومية النخبوية في الشرق الأوسط العربي بالفريد من نوعه في المنطقة. وتماثل هذه المرحلة تلك الحقبة التي أنجز فيها الأدباء والباحثون المرتبطون بحركة “النهضة” والحركة “السلفية”، اللتين شهدتهما أواخر القرن التاسع عشر، أعمالهم معزولين عن أغلبية السكان، وغافلين في معظم الأحيان عن الآثار السياسية التي قد تترتب على دراساتهم.
وهكذا، ملأت اللجان الشعبية الفراغ الذي لم يكن في وسع الحكومة العربية ولا المنظمات القومية المرتبطة بها، مثل جمعية العربية الفتاة والنادي العربي، أن تملأه بنيويًا أو عقائديًا. ويمثل بروز اللجان شاهدًا على فعالية السيرورات التي حولت الإمبراطورية العثمانية إبان القرن التاسع عشر. فقد جعلت هذه السيرورات الكثير من السوريين قادرين على “تصور” الجماعة القومية؛ فراحوا يتطلعون إلى اللجان الشعبية من أجل تحقيقها. ولكن “تصور” الجماعة القومية ينطوي على آثار بالنسبة إلى هيكلة علاقات السلطة، وقد وفرت اللجان الشعبية بديلًا من الهياكل التقليدية للسلطة التي ثبت أنها غير ملائمة للظروف التي واجهها العديد من سكان سورية في مطالع القرن العشرين.
يناقش القسم الأول كيفية تغير طبيعة التنظيم السياسي في سورية، قبل الحرب العالمية الأولى وإبانها وبعدها. وغداة هذه التغييرات، غالبًا ما حلت المنظمات السياسية المعقدة والشاملة محل أنماط التنظيم التقليدية والضيقة أو همشتها أو أعادت صياغة سياقها، ميسرة بذلك التعبئة البرنامجية لأعداد كبيرة من المكونات. ولم تتسبب هذه المنظمات في توسيع نطاق المشاركة السياسية فحسب، بل أنهت احتكار الفئات المهيمنة سابقًا من النخب للسلطة، وأعادت تعريف الصلات التي تربط اللانخبة بزعمائهم وسيّستها. ونتيجة لذلك، لم تعد السياسة الجماهيرية ممكنة في سورية إبان الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى مباشرة فحسب، وإنما باتت أمرًا محتومًا.
ولما كانت المنظمات الشعبية الجديدة شاملة وعقائدية، ودمجت أتباعها عبر مجموعة متنوعة من روابط الولاء المألوفة والأصيلة، فقد عملت على تبين وتكثيف وتحقيق وصقل المعاني الممكنة التي في مقدورنا استخلاصها من مجموعة متماسكة من الرموز التي غالبًا ما كانت مميزة. ومن ثمّ لم يكن أولئك المرتبطون بالجماعات الشعبية من “الغوغاء” غير محددي المعالم، إنما كانوا أعضاء في جماعة خطابية جرى تشكيلها بصورة سرية – على الرغم من اختلافهم الشديد عن الجماعة الخطابية المكونة من أعضاء الحكومة العربية ومؤيديها – ممن ينبغي اعتبارهم أيضًا جزءًا من التيار القومي.
ثانيًا: الجماعات الخطابية القومية
امتد القسم الثاني على الفصلين الثالث والرابع. وكان مجال بحث المؤلف فيهما منصبًا على دراسة المكون الرمزي للمجالات الخطابية القومية المتنافسة، وكذلك قواها الإدماجية والتوجيهية. فقد ضم المجال القومي، في سورية ما بعد الحقبة العثمانية، جماعة متباينة من الناشطين، والمنظمات، والناخبين الذين عبروا عن نزعاتهم القومية عبر الخطابات التي كانت متباينة على نحو مماثل. فعملت هاتان السيرورتان التوأمان على نحو متفاوت، وأثرتا في مناطق وشرائح اجتماعية مختلفة بصورة غير متزامنة وغير متساوية. ونتيجة لذلك، ففي حين عكست كل الخطابات القومية السيرورات العالمية التي تعمل في الشرق الأوسط، فإن نطاق عملها وأسلوبه كانا متباينين. إضافة إلى ذلك، لما كانت الإمبراطورية العثمانية وحكومة الأمير فيصل العربية كلتاهما تعانيان الضعف، ونظرًا إلى اتساع مدى التحول الاقتصادي والسياسي، فلا يمكن خطابًا قوميًّا مهيمنًا بمفرده أن يكون مقنعًا ولا أن يجبر الآخرين على التسليم له.
لقد يسّر الجو السياسي المشحون، في سورية ما بعد الحرب، التبادل بين الجماعات القومية أيضًا. وتولت الحكومة العربية ومختلف الجمعيات السياسية تنظيم التظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف.
فكانت الحكومة العربية وجمعية العربية الفتاة (إبان الشطر الأعظم من العهد الفيصلي)، والنوادي العربية التي كان نفوذ المتنورين يهيمن عليها، من جهة، واللجان الشعبية وحلفاؤها، من جهة أخرى، تجسيدًا لإطارين مؤسساتيين متمايزين، يؤازران الجماعات الخطابية المتنافسة في سورية ما بعد الحقبة العثمانية.
لذا جرى في هذا القسم، من الكتاب، مقارنة الرموز والمجالات الخطابية التي تميز هاتين الجماعتين الخطابيتين.
وقد تناول المؤلف في الفصل الثالث تنوع المعاني التي استمدتها الجماعتان الخطابيتان القوميتان الأساسيتان من مجموعة متنوعة من الشعارات والرموز الرئيسة، التي كان بعضها مشتركًا بينهما، بينما كان بعضها الآخر مقصورًا على هذه الجماعة أو تلك.
ورام في الفصل الرابع توضيح العلاقة المتبادلة القائمة بين هذه الرموز ومعانيها المحددة، ووضعها في السياق الأوسع نطاقًا للمجموعات المتكاملة من القيم، والالتزامات، والأهداف التي يفرضها المجال الخطابي لكل جماعة.
كانت هذه المهمة، في بعض وجوهها، قد بدأت بالفعل. ذلك أنه من المستحيل، بالطبع، بحث الدور المحوري الذي اضطلع به الرمزان الرئيسان “التقدم” و”الديمقراطية”، على سبيل المثال، من دون الإشارة إلى الإطار الذي حوّل هذين المصطلحين إلى رمزين أنموذجيين. ولسوف يختلف النهج الذي اتخذه المؤلف في هذا الفصل، على أي حال، عن ذاك الذي اتبعه في الفصل الثالث من ناحيتين. أولًا يعكس هذا الفصل اتجاه الاستقصاء؛ نظرًا إلى أن المجال الخطابي ذاته يفرض مجموعة من الدلالات التي قد ينسبها المساهمون في الجماعة الخطابية إلى ما ينطوي عليه كل رمز. فينبغي أن يبدأ تحليل المجالات الخطابية بتفحص المجالات
في وحدتها الكاملة بدلًا من الوصول إلى استنتاجات بالاعتماد على رموز منتقاة وغير مترابطة. ثانيًا، سوف يكون الموضوع مَناط البحث في هذا الفصل أشد تقييدًا مما كان عليه الحال في الفصل الذي سبقه؛ وعلى الرغم من أن المجالات الخطابية موضوع البحث قد أجازت مجموعة شاملة من المعتقدات التي تناولت قدرًا كبيرًا من الاهتمامات العامة والخاصة، فإن هذا الفصل يقتصر في تركيزه على نهج كل مجال خطابي في النظر إلى مشكلة معينة تتصل بتأسيس الجماعة السياسية المثالية وإعادة بناء التنظيم الملائم للمجتمع.
ويعتقد المؤلف بأن ما يجعل هذا النقاش حاسمًا، لفهم التحول السياسي والاجتماعي في سورية ما بعد الحقبة العثمانية، هو تلك الحقيقة المتمثلة في أن المجالات الخطابية تضطلع بما يتجاوز مجرد تصوير عالم مثالي؛ إذ إنها تلهم مكوناتها وتوفر التوجيه لنشاطاتها.
وكما سبقت الإشارة في الفصل الثالث، يمثل أحد الرموز التي تقع ضمن المجال الخطابي جسرًا يربط بين المرجع الرمزي ومجموعة معينة من المعاني. ومن ثمّ، يعكس المجال الخطابي البيئةَ التي نشأ فيها. ولكن بما أن المجال الخطابي ذاته يفرض التماسك في مجموعة كبيرة من المعاني الرمزية الممكنة، فإنه في الوقت ذاته يعزل نفسه عن سياقه الاجتماعي ويتخذ سمات الحقيقة الأنموذجية؛ ويعني ذلك أن المجال الخطابي هو بمنزلة مصدر للسلطة الخاصة به. ونتيجة لذلك، تعمل منظومة الرموز المتكاملة بوصفها خريطة توجيهية للسلوك: ونظرًا إلى أن الرموز المتضمنة قد استمدت معانيها من مجموعة من الرموز الداخلة في محتوى المجال الخطابي، فإنها تسعى للتمييز بين ما هو مباح وما ليس كذلك؛ إذ يوجّه المجال أنصاره عبر إجازته لمجموعة من النشاطات.
إذًا، في هذا القسم، عقد المؤلف أعقد مقارنة بين اثنتين من الجماعات الخطابية القومية الرئيسة نشأتا في سورية إبان العهد الفيصلي. وقارن بالاستعانة بالمنشورات، والكتابات على الجدران، والمقالات الافتتاحية المنشورة في الصحف، والخطب، والإشاعات وغيرها من النصوص، بين أهم الرموز “الرموز الرئيسة” والشعارات ومجالات كلتيهما، من أجل تتبع مراحل تطور هاتين الجماعتين الخطابيتين المتنافستين.
ثالثًا: المراسم الاحتفالية القومية
يشكّل الفصلان الخامس والسادس القسمَ الثالث والأخير من الكتاب، وقد تفحص المؤلف فيهما إحدى الوسائل التي كانت تتوسل بها المجموعات القومية المتنافسة لامتحان أفكارها وإثبات صحتها: ونعني الاحتفالات الجماعية. ولا يُعدّ تحليل هذه الاحتفالات أمرًا ضروريًا من أجل فهم الرسائل المختلفة التي تستعين بها الجمعيات السياسية المتنافسة لاجتذاب سكان سورية وتوجيههم فحسب، وإنما أيضًا من أجل فهم السيرورة التي بوساطتها يجري خلق الجمهور السياسي وتعبئته.
وقد بين المؤلف أن هذه الاحتفالات توظف الرموز بطريقتين: فهي لا تحتوي على الرموز فحسب، بل إن الاحتفال ذاته، بمجمله، يعدّ رمزًا. ويمكن قراءة الرموز التي يشتمل عليها أحد الاحتفالات، متمثلة في الأعلام التي يحملها المشاركون في الاحتفال أو الأزياء التي يرتدونها، أو الشعارات التي يجري الهتاف بها في أثناء سير الموكب، والمعلنة في الخطابات، أو المكتوبة على الرايات واللافتات، وما إلى ذلك.
لقد كانت الاحتفالات المتنوعة التي نظمتها الحكومة العربية، مثل التظاهرات، والاستعراضات، والأعمال المسرحية، بما حفلت به من نزوع نحو التوجيه وإفراط في مكونات “أنموذج عن” الواقع، تفتقر إلى القدرة على التأثير والقوة نوعًا ما لهذا السبب. وإن الشكل الذي اتخذته هذه الاحتفالات لم يجر اختياره عشوائيًا، بل بالأحرى، إنه كان بالضرورة مشتقًا من نهج تكتيكي اعتمدته الحكومة العربية لتحقيق الاستقلال والتعبير عن الأنموذج الصريح للعلاقات الاجتماعية الذي هو جزء لا يتجزأ من أيديولوجية هذه الحكومة. وعلى النقيض من ذلك، ونظرًا إلى أن “الأنموذج عن” المجتمع الذي حدده أخصائيو تنظيم المراسم الاحتفالية العامة لدى اللجان الشعبية يوضح بدقة أكبر العلاقات الاجتماعية للمشاركين، كما يراها هؤلاء أو يفضلونها أن تكون، فإنه كان في إمكان الاحتفالات التي ترعاها اللجان الشعبية الاستغناء عن العديد من العوامل ذات الطابع الإيعازي الأكثر وضوحًا المتضمنة في التظاهرات التي نظمها منافسوها، وذلكم هو ما فعلَتْه. ونتيجة لذلك، باتت تملك قدرة على إقناع المشاركين، وإذا صدقت روايات شهود العيان، فإنه لم يكن لها مثيل في أي من الاحتفالات الأخرى التي جرى تنظيمها في سورية الفيصلية.
كانت الحكومة العربية تنظم الاحتفالات العامة في المقام الأول من طريق حشد الشبكات المشار إليها أعلاه – ألا وهي مؤسسات الحكم وموظفوها، والنقابات، والمدارس، والصحافة – إضافةً إلى أعضاء السلك العسكري، والعمل بالتعاون مع حلفائها من الجمعيات السياسية مثل النادي العربي.
وكانت الحكومة العربية والحكومات المحلية، سواء تلك القائمة داخل المنطقة الشرقية أم خارجها، بالاشتراك مع حلفائها من خارج الحكومة، يشجعون على تقديم الأعمال المسرحية ويدعمونها. وقد أنجزوا هذه المهمة متوسلين بمجموعة متنوعة من السبل. وكان ذلك بدءًا من تنظيم الفرق التمثيلية وتشييد المسارح (مثل المسرح البلدي الذي شيدته الحكومة المحلية في رام الله)، وصولًا إلى تأسيس مدرسة للتمثيل واحدة على الأقل في حلب وهي المسمّاة المسرح المدرسي، على نحو ملائم. وقد بلغت الحماسة التي أبدتها الحكومة العربية حيال أهمية العروض المسرحية حدًا جعل الكلية الحربية في دمشق تفاخر بمنهاجها الدراسي.
ويبدو أن اللجان الشعبية، على النقيض من الحكومة العربية والنادي العربي، لم تكن ترعى العروض المسرحية المقامة في المقاهي أو الأماكن الأخرى. ويرجح أن يكون أحد أسباب ذلك هو أنه لم تكن كل الجماهير التي تمثلها هذه اللجان تعتبر المسرح والتمثيل عملًا لائقًا لا يدعو للخجل.
وعلى أي حال، بخلاف الاحتفالات التي حللها المؤلف في الفصل الخامس – وهي الاحتفالات التي كانت في الغالب من عمل الحكومة وداعميها – فقد تولت اللجان الشعبية وحلفاؤها أيضًا تنظيم التظاهرات. وتضيف الحقيقة، التي مؤداها أن هاتين الكتلتين القوميتين كلتاهما قد تمثلتا عبر وسيط مشترك، بعدًا آخر إلى دراسة الاحتفالات: إذ إن من شأن عقد مقارنة بين التظاهرات التي نظمتها كلتا الكتلتين جنبًا إلى جنب أن تمكّن المؤرخ من أن يُظهر على نحو مباشر ذلك التباين القائم بين المبادئ الموجهة لكلتيهما.
ونظرًا إلى أن التظاهرات التأكيدية (ونعني “الاستباقية”) كانت من ذلك النمط الذي تنفذه اللجان الشعبية، ولا يجري إلا في مجتمعات تكون الانتماءات الواسعة الأفقية والمجتمعية موجودة فيها إما جنبًا إلى جنب مع الانتماءات العمودية والمجتمعية أو تحل محلها؛ وذلك لأن تنظيمها في سورية يوفر دليلًا يؤكد وجود تحوّل ضمني في العلاقات الاجتماعية والسياسية، إبان الحقبة المتأخرة من العهد العثماني وبداية ما بعد العهد العثماني.
وكما جرى النقاش في المدخل، فإن مثل هذا التحول يُعدّ شرطًا مسبقًا لظهور حركات قومية ذات قواعد جماهيرية واسعة.
بيد أنه على الرغم من أن الحكومة العربية وحلفاءها كانوا المبادرين إلى استخدام الاحتفالات في العهد الفيصلي، فإن نظرتهم إلى العالم ونهجهم التكتيكي لتحقيق الاستقلال حالا دون تحقيقهم لأكثر من تعبئة جزئية للسكان وترزح تحت قيود صارمة، بينما لم يكن ثمة قيود من هذا القبيل حدّت من نشاطات التعبئة التي تولتها اللجان الشعبية. ففي خريف عام 1919، وبالتزامن مع الإخفاق الواضح من جانب الحكومة العربية في الحيلولة دون تقسيم سورية، وفرض الانتدابين البريطاني والفرنسي على بلاد المشرق العربي، أفادت اللجان الشعبية من النشاطات الرامية إلى التعبئة، التي كانت الحكومة العربية قد اضطلعت بها في السابق، في إطلاق شرارة ثورة تنظيمية عبر إضفائها الطابع المؤسسي على علاقات السلطة الأفقية والجمعياتية والقومية التي لها صلة وثيقة بحياة العديد من السوريين في المناطق الحضرية. وتلكم هي العلاقات التي أبرزتها اللجان واحتفلت بها في تظاهراتها. فكانت التظاهرات التي نظمتها اللجان الشعبية دليلًا على ظهور “السياسة الجديدة” في سورية، ومحفزًا لها على حد سواء.
لقد جمع المؤلف في القسم الثالث، الذي تناول بالدرس المراسم الاحتفالية، الموضوعات التي جرى طرحها في القسمين السابقين. فقد نظمت الحكومة العربية وحلفاؤها الاحتفالات بالأعياد الرسمية، والأعمال المسرحية، والتظاهرات بغية تحقيق أهداف موجهة داخليًا وخارجيًا في آن. فمن ناحية، استخدمت الحكومة ومؤيدوها من المتنورين الأماكن العامة وشبه العامة من أجل أن تغرس “القيم الوطنية” في أذهان السكان، وأن تظهر رمزيًا ما كانوا يعتبرونه التنظيم الملائم للمجتمع، وأن تنشر تمثيلًا محددًا للسردية القومية من شأنه أن يبرز حقهم في الحكم. ومن ناحية أخرى، أقاموا مراسم احتفالية بغية جذب اهتمام المراقبين الخارجيين والتأثير فيهم من أجل إظهار أن الأمة “متحضرة” (أي مهيأة للاستقلال وفقًا للمعايير التي وضعتها عصبة الأمم ومبادئ ويلسون) وموحدة من الناحية البرنامجية. ومن أجل ضمان أن تبقى هذه المراسم الاحتفالية منظمة وأن تتسم بالشفافية، منعت الحكومة العربية وحلفاؤها معظم السوريين فعليًا من المشاركة الفعالة فيها وناطوا بهم دور المتفرج أو الخلفية لحدث درامي كانوا مرتبطين به على نحو عرضي وحسب. ونتيجة لذلك، أعادت هذه المراسم الاحتفالية على نحو مؤثر تفعيل الهوة التي فصلت النخب القومية عن باقي السكان؛ وتلكم هي هوة جعلت، بصرف النظر عن نشاطات دول الوفاق، إخفاق المشروع القومي الذي توخاه أشراف مكة والمتنورون قدرًا محتمًا.
وفي حين أن العديد من التظاهرات التي نظمتها اللجان الشعبية كانت تماثل ظاهريًا تلك التي نظمتها الحكومة العربية وحلفاؤها، ألغت تظاهرات أخرى سواها سلاسل من الفعاليات المرتبطة بتقديم العرائض أو الاحتجاجات. ولم تقتصر هذه التظاهرات على تصور تنظيم للمجتمع وسردية قومية يتناقضان تناقضًا حادًا مع تنظيم المجتمع والسردية القومية اللذين قدمتهما التظاهرات التي ترعاها الحكومة، بل كانت إلى حد كبير ذاتية المرجع. وعبر إلغائها سلسلة المراسم الموجهة خارجيًا، وبوساطة إزالة الفارق بين المتفرج والمشارك، أعادت هذه التظاهرات على نحو رمزي تشكيل الأمة في عالم مصغر وأكدت تحولًا أساسيًا للعلاقات الاجتماعية في المناطق الحضرية في سورية؛ ما جعل العمل الجماعي المستمر والاستباقي المثير للنزاع أمرًا ممكنًا.
لقد كانت الأحداث التي شهدها العهد الفيصلي، بعيدًا من كونها – حالة فضول تاريخية منعزلة – تُعدّ إيذانًا بظهور سياسة قومية شعبية في الشرق الأوسط العربي، ظلت مستمرة، حتى يومنا هذا(1).
(1) موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات