بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في الستينات من القرن الماضي لم يكن باستطاعة أهالي القرى والبلدات الصغيرة من محافظة حلب ان يشاهدوا فيلما سينمائيا سوى بالذهاب الى دور السينما في مدينة حلب ..
في يوم من تلك الأيام قرر ابو عبدو السفر إلى مدينة حلب لقضاء بعض الأشغال الضرورية هناك ، فقام بارتداء ( شروال ) عرسه الأسود ( وتاسومته ) الحمراء الجديدة واصطحب معه ولده عبدو ذو السنوات العشر بعد أن ألبسه ( قنبازه ) الجديد ..واستقلا السيارة الكبيرة ( البوسطه ) التي أنزلتهما في باب الفرج .. وفور وصولهما هرعا إلى صالون دمشق حيث ( طرق ) كل منهما طاسة هيطلية مع البوظه الحلبيه .. ذهب أبو عبدو بعدها لقضاء اشغاله وبعد انجاز مهماته التي حضر من أجلها حان وقت الغداء فعرج وابنه على السويقه وتناولا صحنين من الحمص المخفوق مع كاسة شاي اكرك عجم.. بعدها حان وقت البحث عن السينما فلا معنى لزيارة حلب أن لم تتوج بحضور فيلم سينمائي ..نزل ابو عبدو وابنه الى باب الفرج .. مرا بسينما ( القاهرة ) التي كانت تعرض فيلم ( البدوية العاشقة ) بطولة سميره توفيق وكمال الشناوي .. ثم الى سينما ( شرقي) التي كانت تعرض فيلم ( لوعة الحب ) من بطولة شادية واحمد مظهر ..واشتهى ابو عبدو حضور هذا الفيلم فهو يحب أن يرى المطربة شادية لكن وجود ابنه الصغير معه حال بينه وبين بلوغ المرام ..فهو لا يريد لابنه ان يتفتّح منذ الصغر على افلام الحب والغرام ..!! تجاوزا سينما حلب التي كان يعرض فيها فيلم ( العظماء السبعة ) من بطولة بول براينر وتشارلز برونسون .. وصلا سينما فؤاد وهناك انفرجت اسارير ابو عبدو ونال المراد ، فقد وجد فيها فيلما لعنتر ابن شداد .. كان أبو عبدو شديد الاعجاب بعنتر فقد قرأ سيرته مرات عديدة ووجدها فرصة سانحة لرؤيته على الشاشة .. وقرر أن يكمل جولته ويشبع متعته فعرج الى شارع بارون ليستعرض أفلاماً اخرى .. ففي سينما الأوبرا يعرض الفيلم الهندي ( جانكلي ) بطولة شامي كابور وسايرا بانو وفي سينما رمسيس يعرض فيلم ( اورسوس وملكة التتار ) وفي سينما الأهرام فيلم ( للماشيستي ) ..
وقفل أبو عبدو راجعا الى سينما فؤاد منهيا جولته فاشترى كيساً من الفستق المحمص من البائع السوداني على باب السينما وقطع التذاكر ( البيليتات ) ودفع ليرة ورقية ثمن بطاقتين ودخل وابنه الى صالة السينما …اعجب أبو عبدو بهدوء الصالة وصوت بائع الكلاسه ينادي عليها همساً فلا تسمع منه سوى حرف السين .. بعدها وضعوا فاصلاً من الأغاني ثم تم تعتيم الصالة وبدأت الدعايات عن افلام قادمة ( قريبا ) و ( قريبا جدا ) ثم بدأ عرض الفيلم …
بدأ أبو عبدو يتابع أحداثه باهتمام بالغ وعندما تم أسر عنتر انمقت ابو عبدو وحدثته نفسه بالخروج من الصالة لكنه تجمّل بالصبر وأخرج سيجارة ( غليظة ) وبدأ ينفخ في الهواء منتظرا الفرج .. وحين قام عنتر بتقطيع السلاسل والخلاص من الأسر لم يتمالك أبو عبدو نفسه من التصفيق والصفير بفمه مستخدما اصبعيه ابتهاجا بخلاص عنتر وعودته وشقيقه ( شيبوب ) للقتال والتنكيل بالأعداء ..!!
بعد نهاية الفيلم خرج أبو عبدو مجبور الخاطر مرتفع المعنويات .. وبقيت أمامه قضية شراء ( الأرمغان والحلويات ) وهي أطعمة لا يوجد مثلها في البلدة فتوجه وابنه الى فرن ( بوابة القصب ) فاشترى من هناك كيس من ( كعك السخانه ) واشترى علبة حلويات ( اسوار الست ) من محل الطرقجي ولإبنه ( سكاكر دروبس ) ثم توجها الى الكراج حيث اقلّتهما سيارة تكسي ( دوزوتو ) مازوت الى البلدة ..
ظل ابو عبدو ولمدة اسبوع يحكي للساهرين عنده من أقارب وأصدقاء بالتفصيل عن رحلة حلب وعن صالون دمشق وعن الهيطلية والآيس كريم الصلب القوام الذي يضربونه بالمطارق وعن صحن الحمص (الطفح) في السويقه والذي لم يشبع نأمة جوعه فطلب صحنا آخر ..!! ثم عن فيلم السينما وبطولات عنتر وكان يقوم بتقليد حركاته ويشرح لهم كيف اقتلع سارية الخيمة وضرب بها اعداءه ..
ويستمتع الساهرون بحلو الكلام ..ويحلمون بفرصة في يوم من الأيام .. تتيح لهم الذهاب الى حلب مدينة الأحلام ..
انظر:
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز