بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في أيام رمضان منذ ستين عاماً نتحدث في كل سهرة عن الإستعدادات ، وعن مدفع رمضان ( الطوب ) والأفطاريات ، ويغرغر الدمع شوقا اليه في أعين الجدات ، وننشط في هذا الشهر بالصوم والصلوات ونفرغ خلاله سلة متخمة بالذنوب والزلات ،
كان شهر رمضان الكريم تلك الأيام يأتي في فصل الشتاء ، فكان السحور يختلف عن سحور اليوم، فكنا نتسحر من نفس طعام الإفطار ، المجدره ومسقعة الباذنجان ، والزيتون في اوانيه من البرد جمدان ، والجبنه لا يأكلها الا موظف جيبه مليان ، اما البيض والمربيات والعجوه والمكسرات ، فكانت من الأمنيات ، وحتى اللبن كان يعز علينا أحياناً فنشتري نصف كيلو بالطاسة بالمناسبات ، كان المسحر الحاج مصطفى الجلاخ من المع واشهر المسحرين، وعنده فن خاص في ايقاظ النائمين ، فيمسك بطبلته النحاسية وسوطها الجلدي ويطوف البلد شارعاً فشارع ، ويتمركز بين كل خمسة بيوت ، وينقر على الطبلة مردداً وبين كل عبارة وعبارة ينقر نقرتين على طبلته فكان يقول :
يا سامعين ذكر النبي عالمصطفى صلوا
لولا محمد ما انبنى جامع ولا صلوا
المشركين يامحمد من هيبتك ولوا .
راحوا حفايا عرايا وعالطرق ما اندلوا
وكان منهم من ينادي : (يانايم وحد الله .. يافلان زكور الله ..يا نايم وحد الدايم ….لا اله الا الله .. لا اله الا الله ) أمثال المسحّر قرنفل ( بائع القنبز ) ومحمد ياسين بزاره (الأطرش) والمسحر الملقب بالأشرم ، وكنا نستمع من الراديو الى نقل حي من الجامع الأموي بدمشق فنستمع الى المنشدين الاوائل (حسن اديب وتوفيق المنجد و مسلم البيطار) .
والأنشودة الخالدة (رمضان تجلى وابتسما طوبى للعبد اذا اغتنما).
ويجلجل صوت (الطوب الاولي) قبل الامساك بساعة يشق سكون الليل ومهمته الإيقاظ .. ثم ( الطوب الاخير ) ويعني الامساك …ويمضي نهار رمضان فلا تسالي ولا تلفزيونات ولا مسلسلات وربما تسلاية رمضان لوحة الأرقام التي يحاول الطفل صفها بالترتيب ..
وقبل الإفطار ننزل الى السوق فنرى ازدحام السوق ببائعي الكعك معروك من صنع كامل الفران المعروكه بفرنك ( خمس قروش) .. .وهناك الغريبه من صنع كامل الفران ايضاً بشكل السمبوسكه ، ونسمع صوت الحاج عمر حواره ينادي على الشعيبيات اللذيذة (الله وليك يا صاااايم .. صايم الله الدايم ..) الشعيبيه بربع ليرة ..والمشبك وناهي طيب وناهي (والمشبكه) بخمسة قروش ايضاً .
وتفوح من الشوارع روائح مختلفة من الطبخات فروائح الشواء ، ورائحة العجه ، والمحشي وتقلاية المجدره !!
وقد كلفت البلدية احد عمالها (حمدو العشاوي والمعروف كنكو ) بمهمة اعلان الافطار .. فكان يحمل ( الطوب ) ، وهو عبارة عن أسطوانة حديدية تحشى بالبارود ولها فتيلة وصاعق ، فيصعد به الى القلعة يرافقه ما ينوف عن الخمسين طفل ، جلّهم من اعمار 7 وحتى 12 سنة وكل واحد منهم يحمل افطاريته بيده وغالباً ما تكون كعكة معروك او تمرات او قرص نواعم وعلى ذمته انه صائم ،وقد يكون صيامه ( درّيجة الحمامه) فيتسحّر ظهراً ويكمل صيامه الى المساء !!
وينتظرالجميع اشارة المئذنة ، ومن ثم صوت المؤذن الحاج سليم الحياني من الجامع الكبير ، الذي يعلن الإفطار كونه مصلّح ساعات فهو افضل من يضبط الوقت ، وحين تشعل لمبة المئذنة ويسمع الأطفال صوت الأذان يلوذون بالفرار ، ويشعل كنكو الطوب ويهرب معهم ، ويدوي صوته في أجواء المدينة ناشراً جو البهجة والسرور ..وفي الأطفال الفرح والحبور ويبدأ كل طفل بالتهام افطاريته مسرعاً نحو بيته ليكمل افطاره .
وعلى مائدة الإفطار هناك طبخة رئيسية ، إضافة الى صحن من طعام البارحة ، وقرص من (المشبك ) وقرص (معروك ) والعوامة أحياناً ،و أما سكبة الجيران ، فحضور صحن كبه بلبنيه على حين غرة من امتع ما يكون ، وبعد الإفطار يستمع الجميع الى برنامج تحية الإفطار للأستاذ مروان شيخو ، وبعد صلاة العشاء يسهرون على حزورات رمضان من الراديو .. ( حزورتنا هالليله بتسلي كل العيله ) وتحازير غوار ( ابن الطوشه عندو كنز …وين الكنز بدنا حصتنا من الكنز ) والسمسميه من اذاعة الشرق الأوسط ، وقبل نهاية شهر رمضان يطوف المسحرون على المنازل لينالوا جزاء تعب شهر كامل من الطواف على البيوت ليلاً فمنهم من كان يقتني حماراً عليه ( شليف او ( خرج ) وينادي : ( اعطونا ..كلابكم عضعضونا .. وقطاطكم خرمشونا ) فتعطيه ربة المنزل طاسة قمح او برغل .
انظر:
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز