من مذكرات أكرم الحوراني – موازنة الدولة:
كانت المرة الأولى التي أطلع فيها عملياً على موازنة الدولة، وكنت في معهد الحقوق قد عرفت شيئاً عنها في علم المالية، ولكنها كانت معرفة نظرية فعكفت على مشروع الموازنة أقرأه قراءة الطالب المجد وأتفحص أرقام الموازنة والأسس التي قامت عليها، فاكتشفت أهمية الموازنة في إعطاء صورة دقيقة بالأرقام عن أوضاع البلاد عامة، فهمي المرأة التي تعكس فيها الصورة الحقيقية للدولة وللمجتمع. ولذلك فإن توجيه الموازنة يرسم مستقبل البلاد في جميع المجالات.
وبذلك خطوت خطواتي الأولى في هذا الميدان الذي صرفت له الكثير من عنايتي واهتمامي فيما بعد، فأخذت أطلاع كتب المالية والاقتصاد والتنمية، وأتباحث مع الاختصاصيين وأناقشهم حتى أصبحت لدي بعض الخبرة في الشؤون المالية والاقتصادية وقضايا التنمية، وتوليت فيما بعد عضوية لجنة الموازنة ورئاستها عدة سنوات.
غير أنني لم أجد الثقة في نفسي، عند مناقشة موازنة عام 1944، أن أطرح على المجلس كثيراً من الأفكار التي كانت تجول في خاطري، واكتفيت بالتوكيد على أسئلة كنت قد تقدمت بها قبل عرض الموازنة تتعلق بتوحيد أسعار الحبوب ومواد الأعاشة التي كانت أسعارها مختلفة في المحافظات السورية، مما كان يولد انعاكاسات سياسية ضارة. كما طالبت بضرورة طرح موازنة الأعاشة على المجلس مع موازنة الدولة العامة، لأنه لا يجوز دستورياً أن تظل موازنة الأعاشة- وهي من الموازنات الملحقة- محجوبة عن الرقابة المجلسية .. وسوف يتبين فيما بعد أية أهمية كبرى كانت لهذا الطلب الذي تكشف عن فساد وارتكابات هاتين المصلحتين (الميرة والأعاشة) واستغلال الحكم القائم لهما، والانعكسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة التي نجمت عنها في البلاد.
كانت واردات موازنة عام 1944 لا تتجاوز مليون ليرة. على أساس أن الليرة الذهبية تعادل 40 ليرة سورية بالسعر الرسمي. وكانت النفقات العامة48,5 مليون ليرة سورية.. إنني أذكر هذه الأرقام لأبين النمو الحالي والاقتصادي المعجز الذي حققته سوريا بعد الاستقلال.
ومن أهم الملاحظات على موازنة 1944، أنها المرة الأولى في تاريخ الموازنات السورية – كان الفرنسيون يضعونها سابقاً- التي يرد فيها ذكر لمشروع الخمس سنوات، وقد خصص له ستون مليون ليرة سورية من الاحتياطي المجممد، ومع أن هذه المبالغ لم تصرف جميعها على مشاريع انتاجية منهجية مدروسة فيما بعد فإن أهميتها أنها وجهت أنظار البلاد إلى ضرورة التخطيط في مشاريع التنمية.
درس اقتصادي .. من الاستعمار:
كانت الليرة الذهبية قبل الحرب تعادل 5.5 ليرة سورية، وكانت الضائقة الاقتصادية طيلة عهد الانتداب الفرنسي تأخذ بخناق البلاد رغم الرخص الشديد الذي لا يمكن تصوره لأسعار جميع الحاجيات، وأذكر أنني ذات مرة تغديت غداء كاملاً ممتازاً مع أجرة المقهى بفرنك واحد “خمسة قروش”. وكان النقد المتداول قليلاً جداً.
ثم حدثت الحرب، واحتلت الجيوش البريطانية البلاد، وكثرت أوراق العملة، وحدث الانفراج الاقتصادي الذي تحدثنا عنه في فصل سابق، وخاطب وزير المالية خالد العظم أثناء مناقشة موازنة عام 1944 البرلمان قائلاً:
“إن كثرة النقد المتداول أوجدت رخاء في البلاد رغم الغلاء المشاهد. وإن هذا الرخاء لن يستمر، فلا بد أن ينجم عن انقطاع انفاق الجيوش وتدني الأسعار وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي أزمة تشبه أزمة ما بعد الحرب الماضية.. ورغبة في التغلب على ذلك وضعت الحكومة برنامجاً لخمس سنوات حرصت أن يكون شاملاً جميع النواحي العمراني كالمدارس ودور الحكومة والعناية بتجميل المدن وتشييد الودائر والبنايات .. الخ”.
والحقيقة أن الجيوش المحتلة لم تنفق في البلاد قطعاً نادراً. ومن أين لها القطع النادر في ظروف الحرب؟ إنها فعلت عكس ذلك إذ وضعت يدها على منتجات البلاد الرئيسية كالحبوب وغيرها لتموين قواتها. وسددت قيمة هذه المنتجات بالعملة الورقية مما سبب هبوط القوة الشرائية لليرة السورية. فأصبحت الليرة الذهبية تعادل أكثر من أربعين ليرة سورية.
وبرغم هذا التضخم انتعشت البلاد انتعاشاً اقتصادياً هائلاً، وسبب ذلك وفرة أوراق العملة بعد قلتها في البلاد طيلة العهد الفرنسي، وكان الفرنسيون، رغم وضع يدهم على مصادر ثروة البلاد الرئيسية ونهبها والتصرف بها، شديدي الحرص على الاقتصادي بإصدار العملة الورقية، لاخوفاً من التضخم النقدي، بل لارتباط النقد السوري بالفرنك الفرنسي، لأنه كلما كثر النقد الورقي المتداول وجب على البنك السوري، صاحب امتياز الإصدار وممثل الرساميل الفرنسية، أن يوجد تغطية ذهبية أو من العملات الصعبة، وهذا مما ليس في مصلحة الرساميل الفرنسية صاحبة الامتياز.
وقد ظل النمو الاقتصادي في البلاد صاعداً مستمراً على جميع المستويات الزراعية والصناعية والتجارية رغم تعثر مشاريع التنمية ولم يحدث ما توقعه وزير المالية من أزمات تصيب البلاد بعد الحرب.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني – قضية فلسطين محور الوحدة العربية (112)
من مذكرات أكرم الحوراني (111) – على ضفاف بردى
من مذكرات أكرم الحوراني(110) – كيف بدأ تشكل المعارضة ضد عهد القوتلي؟
من مذكرات أكرم الحوراني (109) – عملاء المخابرات البريطانية المحليون
من مذكرات أكرم الحوراني (108) – المعركة التي لم تخضها سوريا يخوضها لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (107) – العائلة القوتلية
من مذكرات أكرم الحوراني (106) – احتفال تجار دمشق بانتخاب القوتلي رئيساً
من مذكرات أكرم الحوراني (105) – أداء رئيس الجمهورية والنواب يمين الإخلاص
من مذكرات أكرم الحوراني (104) – افتتاح البرلمان وانتخاب القوتلي رئيساً عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (103) – في مجلس النواب.. متاعب .. إلى حدود الإغماء
من مذكرات أكرم الحوراني (102) – كيف كانت بنية المجتمع وشكل الاقتصاد في حماه عام 1943؟
من مذكرات أكرم الحوراني (101) – منعطف حاسم في مسيرة حياتي
من مذكرات أكرم الحوراني (100) – على هامش معركة الانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (99) – شكري القوتلي يوافق ويبارك
من مذكرات أكرم الحوراني (98) – لجنة الإصلاح في حماة 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (97) – موقف الكتلة الوطنية من انتخابات حماة عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (96) – طبول فتنة دامية
من مذكرات أكرم الحوراني (95) – انفجار الشعار الحاسم
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: