وثائق سوريا
كلمة شكري القوتلي في فندق سمير اميس قبيل انتخابه رئيساً عام 1955
قبل انتخاب الرئيس شكري القوتلي بثمانية أيام أقام تجار دمشق حفلة كبرى مساء العاشر من آب عام 1955 في فندق سمير اميس تكريماً لفخامة الرئيس شكري القوتلي حضرها المئات من رجالات البلاد وكبار رجال الدولة وأعضاء مجلس النواب من مختلف الأحزاب والكتل وبعض الممثلين السياسيين للدولة العربية الشقيقة من سفراء ووزراء مفوضين.
ألقى شكري القوتلي الخطاب التالي:
حضرات الأخوان الأعزاء
منذ سنوات قلائل أحرزت سورية استقلالها فسما ذكرها في المحافل الدولية ونالت بين شقيقاتها منزلة كريمة، ولكنها ما كادت تتمتع بهذا الاستقلال وتهم بالانصراف إلى إصلاح شؤونها بعد أن تخصلت من ربقة الحكم الأجنبي، حتى دعاها الواجب إلى مجابهة المشكلة الفلسطينية، واشتبكت في حربها باذلة كل ما لديها من جهد وطاقة، ثم توالت عليها من بعد فتن وأحداث، كادت لولا يقظة أبنائها وصدق وطنيتهم، ان تذهب بريحها وتجعلها عبرة من عبر الدهر، فضعفت مكانتها وغدت مشكلة من مشكلات العالم العربي بدلاً من أن تظل كما كانت عنصراً حيوياً من عناصر ارتقائه وعاملاً قوياً في علو شأنه، وتزداد قوة واعزاز أو تواصل السير في الطريق المثلى التي شقتها لنفسها مع فجر الحرية والاستقلال.
تلك أحداث ندعها إلى حكم التاريخ ولننظر اليوم بلا إبطاء إلى ما ينبغي على الأمة القيام به من عمل الساعة الحاضرة ومقتضيات المستقبل، معتبرة بدروس الماضي وعظاته، وقد أجمعت الآراء على أن الأمة العربية بحاجة إلى مساهمة سورية مساهمة فعالة في وضع خطوط المستقبل الكبير. على أن سورية لكي تؤدي رسالتها بحاجة إلى عهد جديد من الاستقرار ثابت الأساس قوي الدعائم، تستقيم معه أوضاعها الداخلية وتصان فيه مصلحة المواطنين على السواء ويكون ذا أثر فعال في توجيه شوؤنها الخارجية وسياستها القومية العربية التي تتشابك أطرافها ويرتبط بعضها ببعض في ميدان نضال قومي مشترك موحد الأهداف والغايات.
كلنا ننشد هذا الاستقرار أيها الاخوان وكلنا في الحقل والمصنع وفي المدرسة والثكنة وفي كل مكان، نسعى إلى أجواء الثقة والطمأنينة والرخاء لنعمل وننتج ونحسن العمل والإنتاج، ولننصرف إلى استثمار ما تزخر به بلادنا العزيزة من قوى مادية ومعنوية عظيمة ويكون ما نبذله من جهد وعمل، وما نحصده من خير ونعمة في رحاب هذا الوطن وفي سبيل الدولة وفي توطيد حكم مستقر عادل وسيلة أساسية لتحقيق أسمى الغايات للأمة وادراك مقاصدها البعيدة في أمورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قلت ان شؤون الماضي تتعلق بالتاريخ إلا ما أردنا ان ننتفع بذكره وتذكره لنصلح حالنا ونقوى عزائمنا وأما ما يجب عمله فعلاقته بالمستقبل وحده، وإنني موقن ومؤمن بأن الرياح مواتية والفرص سانحة لكي نبعث من جديد وحدة الأمة، ونمضي بها قدماً في سبيل التعاون والتآزر حتى نقوم في الشعب حالة نفسية سامية وشعور بالإنصاف ومحبة له، ولا نبقى في القلوب جزازات وضغائن وذكريات مريرة فالسياسة في نظري أيها الاخوان ان لا تكون جديرة بهذا الاسم اذا انقادت لحقد أو موجدة، وهي بالدرحة الأولى وعلى الأخص في بلادنا مدرسة أخلاق ويجب أن يكون رجالها رجال سماحة وكرم، وعلم، ونزاهة وتجرد، وأعطاء مثل صالح في انكار الذات.
وكلما أمعنا الفكر في حالة الاشفاق والحذر التي تساور النفوس، وجدنا أن لامناص لنا من أن نؤيد بعزيمة وعقيدة كل محاولة ترمي إلى التنظيم والتجديد وإلى سلوك التقدم، يكون من متابعتها أن تسمو الأفكار مهما تنوعت اتجاهاتها العلمية والاجتماعية إلى مثل أعلى من التضامن واحترام الحق العام. فإذا تقدمنا خطوة للتقريب بين الوجوه المتنافرة، أقمنا البرهان للناس جميعاً بالعمل لا بالقول على أننا نضع فوق شواغلنا الأنية المادية قيماً روحية أصيلة تستمد قوتها من صميم عاطفة الإخاء لإقامة حكم صالح عادل تسوده القواعد الدستورية والأسس الديمقراطية والمبادئ الحرة التي لا تحسن الحياة بدونها.
وعلى هذا فقد كان من محاولات التنظيم أن أصبحت المذاهب الاقتصادية تسير جنباً إلى جنب مع المذاهب السياسية في الحياة الديمقراطية بل توجي بها وتستأثر باهتمام رجالها إذ أن من مقتضيات هذه المذاهب تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يقضي بأن يوفر لجميع طبقات الشعب ما يحتاجون إليه من خير ويسر فتنهض الحكومات جاهدة لإيجاد العمل وتوسيع المشاريع العمرانية والإصلاحية العامة، ودفع غوائل الأزمات ورفع مستوى معيشة الفرد والعمل على زيادة الإنتاج وفتح الأسواق العالمية لمنتجات البلاد. ولما كان مصدر الثروة القومية قائماً على أساس العمل ورأس المال وجب على الدولة في سعيها لتأمين الرفاه والرخاء والقوة أن تقيم توازناً عادلاً بين هذين العنصرين الأساسيين بتحقيق العدالة الاجتماعية على أحداث الطرق وأنجع الأساليب المتبعة في أرقى بلاد العالم.
وكل ما ذكرته لكم أيها الأخوان من عوامل الاستقرار ودعائم العدالة الإجتماعية والأخذ بأسباب التنظيم العلمي والعملي، والدعوة إلى التنافس والبعد عن التناخر البغيض، شؤون لا يستقيم لها ميزان إلا بإقامة قواعد صحيحة للحياة الحرة، فلا تنقلب الاتجاهات الحزبية إلى تيارات عداء وكراهية ولا تنحدر إرادة الإصلاح والتنافس في سبيله إلى حضيض الخصومات الشخصية مما يثير المشاكل والفتن ويجعل البلاد شيعاً وعصباً تدمي جنبات الوطن، وتنكأ جراحاته. إذ ليس أعدى للحرية من إساءة استعمالها وإشاعة الفوضى بأسمها ونحن في شدة حرصنا على الحرية نطمع إلى توسيع مدارك الشعب وتثقيفه والنهوض به ليكون يوماً بعد يوم أبعد وأرفع عن موطن الخضوع والإذعان والذلة وهو الشعب الذي أبلى في مواطن الجهاد بلاء لم يستمد قوته إلا من عزته وإبائه وطموحه.
ولست بحاجة أن أذكركم أيها الأخوان بأن كل استتباب أمر وكل استقرار نظام حكم يجب أن يحاط بسياج من السلامة الوطنية الشاملة وهي سلامة تقضي على الأمة أن يكون لها جيش قوي منيع مسلح ومزود بأحدث أساليب الدفاع ليؤدي واجبه على الوجه الأكمل في الذود عن حدود الوطن وصيانة سلامته وكرامته محاطاً برعاية الأمة مشمولاً معطفها وتأييدها.
أما سياستنا العربية التي هي قاعدة سياستنا الخارجية فهي تقوم على التضامن مع كل قطر عربي بدون تفريق ولا تمييز، إننا نريد الخير للجميع، الخير الشامل الدائم ونود أن لا يقتصر التضامن العربي على الشؤون الخارجية بل يتجاوزها إلى التعاون في بحث الأمور المشتركة بروح المصلحة العامة. وحينئذ تجتمع الشعوب العربية في عصبة قوية وتتعاون بصدق وجد فتنشئ قوة مجتمعة قادرة على صيانة الحق والعدل وتصبح الأخوة العربية غير الكلام المنمق الخاوي وتشعر الشعوب بما بينها من صلة وتضامن ويسد بعضها بإخلاص أزر بعض، وهكذا تمضي الأمة العربية قدماً نحو تحقيق أهدافها في وحدة شاملة كاملة.
نعم ان العالم العربي يتحفز للنهوض، غير أنه في تاريخه الطويل قد ابتعد بعضه عن بعضه الآخر أحياناً واقترب أحياناً. وتفاوت هذا القرب وذلك البعد بين بلاد وبلاد وأقطار، وأقطار وتعرض لمشكلات كثيرة في داخله وخارجه، وبرغم الخدمات التي أدتها جامعة الدولة العربية وما تفرغ عنها من ميثاق للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي فيجب أن يعمل على تقويتها ودعمها وشد آزرها حتى تحقق الدفاع عن حرية هذه المنطقة الإقليمية في الشرق الأوسط وتؤمن أمنها وسلامتها وتعالج مشكلاتها الداخلية والخارجية بروح التعاون والتضامن ولا يتم ذلك إلا إذا أصبحت جامعة الدول العربية حلفاً حقيقياً يضم شملها ويجمع أمرها.
ولا يشك أحد في أن استقرار الأوضاع في سورية يساعد على أن تعود كما كانت عنصراً حيوياً في مجموعة الدول العربية عاملة على توثيق العرى وتعزيز الصلات وتسوية الشؤون الخلافية. فقد غاب نفوذها وتأثيرها في المجتمع العربي خلال سنوات عديدة وقد آن لها أن ترجع مرة أخرى إلى القيام بأعباء مهمتها في العالم العربي والمشاطرة بقدر طاقتها في معالجة الشؤون الدولية على أساس تحقيق مصلحة البلاد العربية العليا.
دمشق في 21 ذي الحجة 1374 والموافق 10 آب عام 1955م.
قرأ الرئيس شكري القوتلي خطابه، ثم قرأ في ورقة منفردة ما يلي:
أحاطني كثير من أخواني أثناء وجودي في مصر وبعد عودتي منها بأجمل عواطف الود والإخلاص والشعور النبيل وزارني عدد غير قليل من مختلف البلاد السورية وطلب مني هؤلاء جميعاً أن أتقدم إلى ترشيح نفسي لمقام رئاسة الجمهورية فكنت أجيب الجميع أن أمر انتخاب الرئيس هو من حقوق الشعب الذي يمثله أعضاء مجلس النواب المحترمين وإني لست براغب في رئاسة الجمهورية بل أنني راغب منصرف عنها ولا أميل إلى ترشيح نفسي لها وهذا أنا أعيد هذا الجواب الآن على ملأ منكم وأتوجه إلى حضرات النواب الذين يشوفوني بحسن ظنهم ويضعون ثقتهم بي الا يتحملوا أعباء وضع اسمي في قائمة المرشحين لمنصب الرئاسة الأول شاكراً لهم حسن ظنهم وثقتهم داعياً إياهم إلى أداء هذه الأمانة الغالية التي وضعها ناخبوهم في أعناقهم بأن يعودوا إلى ضمائرهم الحياة ويقدموا على انتخاب الرئيس مختارين الأصلح لهذا المقام الأسمى من الذين خبرتهم الأمة في أيام النضال والكفاح وممن عرفوا بالإخلاص والتضحية والتجرد وانكار الذات واتصفوا بالكفاءة والدفاع عن حق الوطن الأقدس راجياً أن يكون بذلك ضمانة قوية تسير بالبلاد نحو سعادتها ورفائها وتأمين استقرارها من الداخل وإلى إعلاء رايتها وكلمتها في العالم الخارجي.
ما عزفت أيها الأخوان عن قبول ترشيح نفسي للرئاسة الأولى لرغبة الابتعاد عن خدمة الأمة عن طريق هذا المنصب السامي وأنا الذي نذرت نفسي لخدمة منذ نيف وأربعين عاماً لم أتخلف فيها يوماً عن أداء ما يلزمني نحو وطني وبلادي.
وأخيراً لا يسعني أيها الأخوان قبل أن اختتم كلمتي هذه الا ان أتقدم بشكري الجزيل لهيئة التجار المحترمين الذين يشكلون الطبقة المختارة في الحقل الاقتصادي في هذا البلد الطيب معلناً لهم امتناني لعواطف التكريم والحفاوة التي طالما أعربوا عنها تجاه شخصي وأنا الذي خبرت مواقفهم المشرفة في الأيام الحالكة طوال عهد الاستعمار الغاشم ولمست بنفسي مقدار تضحياتهم وإقدامهم وإخلاصهم فكانت مواقفهم عاملاً أولياً في جلاء الأجنبي عن الوطن الغالي، كما أتقدم بالشكر لجميع الذين تفضلوا بحضورهم هذه الحفلة وشاركوا الهيئة التجارية المحترمة عواطفتها الكريمة راجياً المولى سبحانه أن يسدد خطانا جميعاً ويهدينا سواء السبيل .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انظر:
زيارات وجولات شكري القوتلي الخارجية
زيارات وجولات واستقبالات شكري القوتلي الداخلية
انظر ايضاً:
وثائق وبيانات سورية 1900 – 2000