من مذكرات أكرم الحوراني – على ضفاف بردى
بعد انتخابي أميناً لسر المجلس تخذت مع زميلي رئيف الملقي مقعى صغيراً على ضفة بردى مركزاً لاستقبال الزائرين والمراجعين والتعرف على رجال السياسية. ذلك المقهى تعرفنا على الأستاذين ميشيل عفلق وصلاح البيطار، ومنذ اللقاء الأول كان انطباعي عنهما جيداً، وكانا قد أصبحا يعارضان عهد القوتلي، وقد تركا مهنة التعليم ليتفرغا للعمل القومي. وكنت قد قرأت للأستاذ ميشيل قبل ذلك محاضرته “في ذكرى الرسول العربي”.
وقد قدم لي الأستاذ صلاح كراساً عنوانه:”القومية العربية وموقفها من الشيوعية: خلاصة الأحاديث التي ألقاها على جماعة من الشباب والطلاب الأستاذان صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق”..
ومما جاء في هذا الكراس: “كانت الشيوعية في سوريا بين سنة 33 وسنة 36 ضعيفة، منبوذة، مضطهدة من كل الجهات. وكانت حركتها مقتصرة على شابين أو ثلاثة في السجون، واثنين أو ثلاثة آخرين متشردين مطاردين. ومع ذلك أو من أجل ذلك كانت تلقى منا بعض العطف. ومنذ سنة 1936 إلى الآن أصبحت الشيوعية قوة سياسية لا يستهان بها، يناصرها الاستعمار الفرنسي والهيئات الوطنية على السواء، ويتباهى المثقفون وموظفو الدولة بالانتساب إليها، كما تتحلقها بعض الأوساط الرجعية، وهي تدر على أصحابها وأنصارهم المنافع والشهرة. ومع ذلك أو من أجل ذلك لا نألوا جهداً في مكافحتها وتحذير النشئ العربي من خطرها”. (طبعة حزيران 1944 ص15).
كنت في ذلك الوقت موافقاً على ما ورد في الكراس من أفكار والسبب أن الحزب الشيوعي أصبح جهازاً دعائياً لفرنسا ببياناته ومظاهراته الهزيلة التي كانت ترفع صور “ديغول وستالين والقوتلي” مما ولد لدي اشتباهاً بمواقفه.
وقد استمر الحزب الشيوعي في تأييده لسياسة الفرنسيين الديغوليين، وكثيراً ما كنت أجد في صندوق بريدي بيانات للحزب، بهذا المعنى، تحاول تهيئة البلاد للرجوع إلى سياسة التعاقد مع فرنسا وتغفل مطالب البلاد للرجوع إلى سياسة التعاقد دون أي قيود تحد استقلالها باسم التعاقد أو التحالف الذي يرجع ببلادنا إلى أوضاع عام 1936م.
ومن جملة هذه المنشورات التي كنت أجدها في صندوق بريدي بالمجلس بيان مشترك عن اجتماع عقد في 23 تشرين الثاني 1944 حضره فرج الله الحلو ونقولا الشاوي ومصطفى العريس من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للبناني، وخالد بكداش ورشاد عيسى ووصفي البني وعبد القادر إسماعيل من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، وكان موضوع هذا البيان المشترك “موقف سوريا ولبنان من قضية التعاقد مع فرنسا بصورة عامة”.
كان موقف الحزب الشيوعي انحرافاً خطيراً أساء به لنفسه بتأثير تبعيته للحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك وقد غير الحزب الشيوعي موقفه هذا بعد جلاء، فاتخذ موقفاً معادياً لمحاولات إنكلترا الحلو محل فرنسا وبسط نفوذها على سوريا.. وستمر في حينه مراحل هذه المحاولات بالتفصيل.
توطدت العلاقات والأواصر بيننا بين الأستاذين ميشيل عفلق وصلاح شيئاً فشيئاً، وكنت في الوقت نفسه أرثي لحال زكي الأرسوزي لما أصيب به من انهيار نفسي، ولكن العطف عليه ومساعدته كانت واجباً بالرغم مما كان يساوره من الوساوس وسوء الظن وعقدة الاضطهاد.. والحادثة التالية الطريفة المؤلمة-بآن واحد- تبين وضعه النفسي، فقد زارني ذات مساء بصحبة عبد الحليم قدور، فهيأت لهما عشاء في البيت وسهرنا سهرة ممتعة حلق فيها الأستاذ بأحاديثه الشيقة المليئة بالصور الشعرية الناقدة الكاريكاتورية الجميلة. ومن سوء الحظ أنه عندما هم بمغادرة المنزل مع رفيقه بعد أن ودعتمهما انزلقت قدمه بقشرة فواكه وأصيبت برضوض. فأخبرني عبد الحليم فيما بعد أن الأستاذ زكي يتهمني بأنني مكلف من الاستعمار بوضع القشرة للكيد به. فضحكت كثيراً وتألمت بالوقت ذاته.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني – كيف بدأ تشكل المعارضة ضد عهد القوتلي؟
من مذكرات أكرم الحوراني (109) – عملاء المخابرات البريطانية المحليون
من مذكرات أكرم الحوراني (108) – المعركة التي لم تخضها سوريا يخوضها لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (107) – العائلة القوتلية
من مذكرات أكرم الحوراني (106) – احتفال تجار دمشق بانتخاب القوتلي رئيساً
من مذكرات أكرم الحوراني (105) – أداء رئيس الجمهورية والنواب يمين الإخلاص
من مذكرات أكرم الحوراني (104) – افتتاح البرلمان وانتخاب القوتلي رئيساً عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (103) – في مجلس النواب.. متاعب .. إلى حدود الإغماء
من مذكرات أكرم الحوراني (102) – كيف كانت بنية المجتمع وشكل الاقتصاد في حماه عام 1943؟
من مذكرات أكرم الحوراني (101) – منعطف حاسم في مسيرة حياتي
من مذكرات أكرم الحوراني (100) – على هامش معركة الانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (99) – شكري القوتلي يوافق ويبارك
من مذكرات أكرم الحوراني (98) – لجنة الإصلاح في حماة 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (97) – موقف الكتلة الوطنية من انتخابات حماة عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (96) – طبول فتنة دامية
من مذكرات أكرم الحوراني (95) – انفجار الشعار الحاسم
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: