شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – المعركة التي لم تخضها سوريا يخوضها لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (12 /108)
من مذكرات أكرم الحوراني – المعركة التي لم تخضها سوريا يخوضها لبنان:
امتدت العطلة المجلسية من 26 آب إلى 29 تشرين الأول. وقد أمضيت أياماً منها بزيارة شقيقتي في مصيف بحمدون. وكانت المعركة الانتخابية في لبنان في أوج حدتها. ولشد ما أدهشني ذلك التغير الجذري فلبنان الذي أشاهده الآن هو غير لبنان الذي عرفته في الماضي، ولم يكن هذا التغير بانطلاق لبنان في الاتجاه العربي التحريري ملموساً في الصحافة والأوساط السياسية فحسب، بل كان مشاهداً في الجو السياسي العام الذي يعيشه لبنان، وزاد في استغرابي وإعجابي أن تكون المعركة الانتخابية في لبنان أشد وضوحاً وتحديداً من معركة سوريا الانتخابية التي اختلط فيها الحابل بالنابل.
ففي لبنان تدور المعركة الانتخابية حول القضية الوطنية بين أعوان الانتداب وبين طلاب الاستقلال والتحرر والعروبة. بينما لم يجر شي من ذلك في الانتخابات السورية، بل إنه لم يجر فيها معركة حزبية أصلاً حيث انحلت الأحزاب وعلى رأسها الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي، كما حال القوتلي ورجال الكتلة دون وقوع الانقسام المنتظر بين الوطنيين وأعوان الانتداب.
لذلك يتبدى من استعراض نواب عام 1943 ان كثيراً منهم من الذين تعاونوا مع الانتداب، بل أن بعضهم كان من عملائه.
أما في لبنان فقد جرى عكس ذلك إذ كانت المعركة الانتخابية محتدمة بدقة ووضوح بين أعوان الانتداب وبين طلاب الاستقلال.
وإذا كان التناقض الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا قد لعب دوراً هاماً في دعم الاتجاه العربي التحرري، فما أحراه آنذاك أن يلعب دوراً أكثر أهمية في سوريا.
كنا نتابع بفرح واستبشار وتفاؤل تصاعد الحركة التي يقودها بشارة الخوري ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي وإخوانهم، والتي انتهت بانتصارهم على أميل اده وأنصار فرنسة وقد اتضحت هذه الحركة أكثر فأكثر عندما انتخب المجلس النيابي الجديد بأكثرية ساحقة الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، فأكد ذلك في خطابه الأول قائلاً: “أسأل الله أن يعيننا على خدمة هذا الوطن اللبناني المستقل المتمتع بسيادته كاملة غير منقوصة، مهما تكن التضحية في سبيل هذه الخدمة كبيرة.
هذا الوطن اللبناني الذي نضع حبه فوق كل شي، والذي يجب أن يظل للبلدان العربية الشقيقة المحيطة به جاراً أميناً صادقاً تربطه بها روابط تعاون يسوده الود والاخلاص”.
واستمر خط الثورة الصاعد عندما ألف رياض الصلح وزارته التي نالت الثقة على أساس بيانها التاريخي من أن “أخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون، فنحن لا نريده للاستعمار مستقراً، وهم لا يريدونه للاستعمار اليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً وسيداً حراً”..
قد كانت جلسة منح الثقة لهذه الوزارة الأولى في العهد الاستقلالي، التاسع من تشرين الأول عام 1943 مظاهرة وطنية كبرى تطرح فيها لأول مرة قضية استقلال لبنان وعروبته وثورته الدستورية على الانتداب فقد ورد في البيان: “سنبادر نحن وأنتم متعاونين إلى إصلاح الدستور اللبناني بحيث يصبح ملائماً كل الملاءمة لمعنى الاستقلال الصحيح. فإن حضراتكم تعلمون أن في الدستور اللبناني مواداً لا يتفق وجودها وقيام الاستلال. وفيها ما يجعل لغير الشعب اللبناني وممثليه الشرعيين مشاركة في تسيرر شؤونه”..
وطرح البيان الوزاري قضية العودة إلى اللغة العربية إذ قال: “وسنسلك منذ الآن تلك الخطة المفترض تحديدها بالقانون بحيث تكون اللغة العربية لغة الدواوين الرسمية، وذلك إلى أن يتم تعديل المادة الدستورية المشار إليها بما يتفق مع شروط الاستقلال والسيادة الوطنية”..
كما تعرض لقوانين الانتداب وأنظمته: “وهناك عدا الدستور اتفاقات وأنظمة متعددة من شأنها أن تعطل بعض نواحي السيادة الوطنية، فستعمد الحكومة إلى معالجتها بما يكفل حق البلاد وسيادتها كفالة تامة”..
ولهذا ارتفع شأن قادة حركة الاستقلال في لبنان، الخوري والصلح وكرامي ورفاقهم، إلى مرتبة عالية في نظر السوريين، بالقياس إلى قادة الحكم بدمشق، مما جعل الصحافة اللبنانية يتسع انتشارها في سورية أكثر من الصحف السورية نفسها.
كان للعهد الدستوري الجديد في لبنان أثر بعيد المدى في تآلف البلدين وتوثيق الروابط بين الشعبين وإزالة الخلافات القديمة التي أورثها الانتداب بينهما، كما كان ذلك حافزاً قوياً للحركة الوطنية في سورية أن تشق طريقها في ظروف دولية وعربية مواتية، ففي القاهرة كان مصطفى النحاس باشا يجري مشاورات الوحدة العربية تؤيده بريطانيا على لسان المستر ايدن الذي صرح:
” إن الحكومة البريطانية تنظر بعين القبول والارتياح إلى كل مشروع يرمي إلى إيجاد وحدة عربية تلقى موافقة تامة.. إن وحدة بين الشعوب العربية المعروفة بصداقتها لبريطانيا من العوامل التي تعزز روح السلام والتفاهم الدولي، كما أنها وسيلة للنهوض بسبعين مليون عربي من الوجهة الاقتصادية”.
لقد كانت مفارقة مدهشة أن يفتتح لبنان العهد الدستوري بانتفاضة وطنية، بالوقت الذي تصدر فيه حكومة سعد الله الجابري قراراً بتعيين بهيج الخطيب “رئيس حكومة المديرين أثر تعطيل الحياة النيابية من قبل المفوض السامي الفرنسي” محافظاً لمدينة دمشق، الأمر الذي اعتبرته البلاد صفعة أليمة وإهانة موجهة إلى نضال الشعب ضد الانتداب الفرنسي.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني (107) – العائلة القوتلية
من مذكرات أكرم الحوراني (106) – احتفال تجار دمشق بانتخاب القوتلي رئيساً
من مذكرات أكرم الحوراني (105) – أداء رئيس الجمهورية والنواب يمين الإخلاص
من مذكرات أكرم الحوراني (104) – افتتاح البرلمان وانتخاب القوتلي رئيساً عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (103) – في مجلس النواب.. متاعب .. إلى حدود الإغماء
من مذكرات أكرم الحوراني (102) – كيف كانت بنية المجتمع وشكل الاقتصاد في حماه عام 1943؟
من مذكرات أكرم الحوراني (101) – منعطف حاسم في مسيرة حياتي
من مذكرات أكرم الحوراني (100) – على هامش معركة الانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (99) – شكري القوتلي يوافق ويبارك
من مذكرات أكرم الحوراني (98) – لجنة الإصلاح في حماة 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (97) – موقف الكتلة الوطنية من انتخابات حماة عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (96) – طبول فتنة دامية
من مذكرات أكرم الحوراني (95) – انفجار الشعار الحاسم
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: