You dont have javascript enabled! Please enable it!
شهادات ومذكرات

أحداث السويداء في أواخر عهد الشيشكلي في مرويات يوسف الدبيسي

شهدت سورية موجة مظاهرات في أواخر عام 1953 ومطلع عام 1954، امتدت من حلب وحتى السويداء حيث كانت الأعنف، والتي تحولت إلى حالة من التصعيد ضد حكم الرئيس أديب الشيشكلي الذي أرسل وحدات من الجيش للسيطرة على الوضع هناك.

الأستاذ يوسف الدبيسي سجل روايته للأحداث حينها في كتابه الذي أصدره ويحمل عنوان: (سيرتي الذاتية).

تتميز روايته للأحداث بأنها تتضمن تفاصيل دقيقة لتلك التطورات بالأسماء والأرقام، سجلها من شارك في تلك الأحداث واعتقل فيها.


النص:

لم تكن الأوضاع العامة في البلاد هادئة والأحزاب السياسية المحافظة والتقدمية، لم تكن مهادنة للدكتاتورية العسكرية التي أراد الشيشكلي انتهاجها لتوطيد سلطته اعتماداً على (حزب التحرير) الذي أنشأه، ليحل محل جميع الأحزاب القائمة في البلاد، والتي أصدر مرسوماً بحلها، وباعتقال المعارضين لسياسته من قادتها، وزجهم في السجون ولعله كان يأمل من تطبيقه لهذه السياسة الغاشمة أن يكسب ولاء أعيان محافظة السويداء وتأييدهم، وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش، لما كان يعلمه من تقصير الحكومات السابقة بحقوقهم،

وعدم الاهتمام بإنعاش مناطقهم في مختلف مجالات حياتهم الاقتصادية والعمرانية. فحضر على رأس وفد كبير من ضباط الجيش إلى بلدة القريّا، حيث تم اجتماعهم به، وألقى الشيشكلي كلمة أكد فيها استعداد حكومته للشروع بتقديم مخصصات كبيرة لمحافظة السويداء، تجعل منها أكثر المحافظات السورية عمراناً وازدهاراً.. غير أنه لم يكن يتوقع، إثر إلقائه تلك الكلمة أن يجيبه سلطان باشا، برزانة وهدوء أعصاب، يقول مؤاده: نحن لا نفكر في الوقت الحاضر بالمطالبة بحقوقنا المهضومة في هذه المحافظة منذ بداية عهد الاستقلال، بل نتوجه إليكم بالنصح مخلصين أن تتخلوا عن الحكم ليعود إلى أصحابه الشرعيين، وأن تفرجوا عن الموقوفين من زعماء الأحزاب وأعيان البلاد لتتفرغوا على رأس الجيش الوطني للمهمات العسكرية المنوطة بكم، حماية لحدود هذا الوطن والوقوف في وجه المطامع الإسرائيلية.. وكان من الطبيعي أن يعود الشيشكلي والوفد المرافق من بلدة القريّا على غير ما كانوا يأملون. وعندئذ بدأ بوضع خطته العسكرية بغية اعتقال سلطان وجميع المعارضين لسياسته في المحافظة، وكذلك للقضاء على البعثيين الذين كانوا يشكلون فيها نسبة كبيرة من أتباع هذا الحزب.

في أوائل عام 1954، ألقت السلطة القبض على منصور بن سلطان الأطرش، وأودعته السجن في دمشق، إثر نقله مجموعة من المنشورات إلى السويداء، صادرة من مقر حزب البعث العربي الاشتراكي، الداعية إلى مناهضة حكومة الشيشكلي الديكتاتورية، مما أدى إلى قيام مظاهرة طلابية في 26 / 1 / 1954، شارك فيها العديد من أهالي القريّا، احتجاجاً على عدم إخلاء سبيل منصور بالكفالة، أطلق خلالها الشاب حسيب غريزي عيارات نارية من مسدسه في الفضاء، وهوجم مخفر الشرطة عند الفجر سقط خلاله عدد من القتلى والجرحى من الفريقين، دون علم سلطان باشا الذي استيقظ على صوت الرصاص وسارع وهو بلباس النوم لإيقاف القتال بمساعدة مدير الناحية فوزي الماوردي..

وما أن أحيط محافظ السويداء علماً بذلك حتى تم تجهيز قوة عسكرية منعت الخروج من القريّا والدخول إليها حوالي الساعة الثانية بعد الظهر.

وفي غضون تلك الفترة كانت إدارة نادي الضباط في السويداء تسمح للمدرسين في الثانوية بارتياد النادي لتناول الطعام أو تمضية أوقات الفراغ، وحدث ذات يوم أني كنت مع بعض الزملاء نتسلى بلعبة طاولة الزهر فتقدم مني ضابط برتبة ملازم أول وقال لي: أرغب في التحدث إليك على انفراد، فنهضت من مكان جلوسي واصطحبني إلى غرفة مجاورة وأغلق بابها وبادرني قائلاً دون أن يعرفني باسمه: تسلمت أمس قيادة الموقع، بعد أن استدعي فصائل من الجيش إلى دمشق لتشارك في العرض العسكري المقرر هناك.

ثم تلقيت اليوم برقية من دمشق تفيد بأن مظاهرة طلابية كبرى ستخرج صباح غد من الثانوية، فيجب منعها للحؤول دون تجمعها أمام دار الحكومة كي لا يفصح المجال للخطباء للألقاء خطبهم المناهضة للحكم القائم، وبما أنك تعمل كمعاون للمدير فؤاد الساطع الذي لا يملك إمكانية التفاهم مع الطلاب، فقد رأيت أن أتصل بك لعلك تتمكن من إقناع زملائك البعثيين لمساعدتك بمنع الطلاب من الخروج من الثانوية للتظاهر في المدينة كي لا يتعرضوا إلى مجابهة قوى الأمن والقطعة العسكرية التي أصبحت بأمرتي أثناء غياب قيادة الموقع في دمشق، ثم أضاف: لعلك حريض قبلي على تجنيب الطلاب أخطار المواجهة لأنني لا يمكن أن أتجاهل الأمر بإطلاق النار عليهم وعدم تنفيذه. كما أرجو أن يبقى حديثي هذا معك طي الكتمان حتى عن زملائك في الثانوية.

بعد انتهاء لقائي معه رحت أفكر بما يتوجب عمله، وقد تأكد لي أن المظاهرة لا شك واقعة بعد أن اتصل بي أحد الزملاء لأساعد في تنظيم خروج الطلاب من باب الثانوية الكبير الجنوبي دون الاعتماد على المدير الذي سيعمل على منع خروجهم بإقفال الباب المذكور ووضعه بحراسه الموجهين والأذن.

بكرت في اليوم الثاني لأصل إلى الثانوية في الوقت المناسب فوجدت عشرات الطلاب قد تجمعوا خارجها ينتظرون موعد فتح البوابة ليدخلوا إلى باحتها، وقد وقع نظري على الجنود الذين أخذوا ينتشرون بقيادة الضابط المذكور، ويتمركزون في خندق محفور في الجبهة الجنوبية خلف ما كان يعرف بنادي ضباط الصف أيام الفرنسيين والذي تحول إلى مشفى في العهد الوطني، عندئذ سارعت الدخول من الباب الفرعي المخصص للأساتذة والجهاز الإداري، وطلبت من الأذن هزاع بوز (الأخرص) كي يفتح البوابة الحديدية قبل الموعد المعتاد لإفساح المجال لدخول الطلاب بدلاً من بقائهم خارجها مقابل الجنود المتمركزين، فدخلوا وأقفل الأذن البوابة وكان عددهم يربو على الألف، ثم وصل المدير والمدرسون تباعاً في حين بدأ الطلاب يهتفون بسقوط الشيشكلي الحاكم الدكتاتوري، وألقى أحدهم كلمة حماسية داعياً إياهم للخروج من المدرسة والسير في مظاهرة للوصول إلى دار الحكومة، غير أن المدير أوعز إلى الموجهين والأذان وهو اختبئ في غرفته المقفلة من الداخل بأن تبقى البوابة مغلقة وقد حاولت إقناعه، بأن يخرج معنا الأستاتذة لتنظيم سير المظاهرة، ومرافقتها إلى المدينة بعيداً عن الجنود المتمركزين مقابل الثانوية ولكنه رفض لأنه – كما قال لي – قد تلقى أمراً من مدير المعارف بإبقاء الطلاب داخل المدرسة، فتوجهت عندئذ إلى غرفة المدرسين لعلهم يقنعون بوجهة نظري، دون أن أذكر لهم شيئاً مما قاله الضابط لي، فوجدتهم مجتمعين على تنفيذ المظاهرة دون مرافقتها، وأوعزوا إلى بعض الطلبة بتحطيم قفل البوابة والخروج منه منحدرين إلى المدينة، مستعملين الحجارة لمقاومة من يعترضهم من الجنود أو الدرك خرجت مسرعاً من الباب الفرعي لمقابلة الضابط الذي كان يقف أمام جنوده، ورجوته بأن يبتعد وإياهم عن مكان تمركزهم ريثما يخرج الطلاب، إثر تحطيمهم لقفل البوابة، ووصلوا نزولاً إلى مقربة من سينما الجيش، حتى اعترضهم هناك فصيل من الدرك، وأخذ يطلب الرصاص عليهم من فوق رؤوسهم، واضطروهم إلى التراجع، ليعودوا إلى المدرسة مسرعين!..

فوقفت ساعتئذ عند بوابة المدرسة داعياً إياهم بالدخول إليها قبل وصول الدرك للإلقاء القبض على العديد منهم، ففعلوا وأقفلت البوابة بسلسلة حديدية مربوطة بقفل كبير، ولكنهم راحوا يرمون الدرك، ومن فوق قفل البوابة بقطع الحطب المجموعة في الباحة للتدفئة في فصل الشتاء، دون أن يرد عليهم رجال الدرك، الذين ابتعدوا قليلاً باتجاه الجنوب. ولما امتنع المدير فؤاد ساطع عن فتح باب مكتبه، وجدت من المناسب الاتصال بالمحافظ نفسه لأشرح له الموقف الراهن في المدرسة، وأطلب منه أن يأمر بسحب فصيل الدرك من المكان ليسهل عليّ إخراج الطلاب في صفوف منتظمة، قدر الإمكان ليعودوا إلى بيوتهم إثر وصولهم إلى ساحة المدينة. وقد انتهى الإضراب على هذه الصورة دون إراقة دماء.

وقبل انصرافي مع الأساتذة من المدرسة، فتح المدير باب مكتبه ليطلب مني أن أقرأ ما كتبه في التقرير الذي سيرفعه إلى مدير المعارف عن حوادث ذلك اليوم، وإذا به يذكر فيه أسماء العديد من الطلبة ممن قيل له أنهم من قادة المتظاهرين وكانوا ينادون بسقوط الشيشكلي وحكمه الديكتاتوري وأن الطلاب بأعدادهم الكبيرة كانوا يرددون الهتافات نفسها، فقلت له: كيف عرفت أسماء هؤلاء الطلاب وأنت داخل غرفة مكتبك المقفلة؟ فقال: إن بعض الموجهين والأذان قد سموهم لي، فنصحته بتغير صورة التقرير ليحذف تلك الأسماء فقال لي: اكتبه أنت وأنا أرفعه باسمي إلى المدير فوافقت وكتبت ما أملاه علي ضميري وواجبي التربوي.

وفي اليوم الثاني استدعاني مدير المعارف على مكتبه فوجدت الأستاذ فؤاد عنده فصحبتهم إلى مكتب المحافظ السيد رفعت زريق الذي كان بانتظارنا ومعه قائد الدرك شريف وانلي، وبعد جلوسنا اقترب المحافظ مني ووجه إلي كلامه قائلاً: يا أستاذ يوسف، كيف تقدم على تغيير نص التقرير الذي كتبه الأستاذ فؤاد وذكر فيه أسماء الطلاب الذين كانوا يحرضون على التظاهر وينادون بسقوط العقيد الشيشكلي؟ عندئذ أدركت أن الأستاذ فؤاد قد عمل للإيقاع بي عند المحافظ وقائد الدرك فلم أجد بداً من مصارحة هذين المسؤولين فقلت: يا سيادة المحافظ، أجل لقد اعترضت على الصيغة التي أوردها الأستاذ فؤاد في تقريره، وذلك للأسباب التالية:

أولاً – لأني خريج المعهد العالي للمعلمين حيث تخصصت بالعلوم التربوية والاجتماعية لأكون مربياً صالحاً للأجيال الصاعدة في بداية عهد الاستقلال، وعلى هذا، لا يجوز بنظري أن يقوم المربي بدور رجل الشرطة أو المخابرات في الوسط الطلابي.

ثانياً- إن الهتافات التي كنا نسمعها لم يكن يرددها عدد محدود من الطلاب، إنما كان الطلاب يرددونها جماعياً، فالمسؤولية لا تقع على الطلاب الذين ذكرهم الأستاذ فؤاد في تقريره بل تقع على طلاب المدرسة جميعاً.

ثالثاً – لم يخرج الأستاذ فؤاد من غرفة مكتبه ليتحقق بنفسه من أن الأسماء الواردة هي للطلاب الذين كانوا يقودون المظاهرة أم غيرهم.

رابعاً – وبما أنني كنت لوحدي أواجه هذه المشكلة فمن الطبيعي أن أعمل على تصحيح ما كتبه الأستاذ فؤاد بتقريره استناداً إلى ما نقله إليه المخبرون بصورة مشكوك فيها.

وما أن استمع المحافظ إلى أقوالي حتى أشعراني بانتهاء المقابلة معي، فانصرفت تاركاً الآخرين معه. ومساء ذلك اليوم لم يغب عن بالي أن أعد كتاب الاستقالة من وظيفتي كمعاون مدير كي لا أفسح المجال لمدير المعارف أن يطلب هو مني ذلك، فكان هذا التوقع في محله إذ أنني دعيت لمقابلته إثر وصولي إلى المدرسة صبيحة اليوم التالي، فذهبت إليه، وقبل أن يبدأ حديثه معي أخرجت من جيبي كتاب الاستقالة وقدمته إليه ثم انصرفت لأستأنف عملي كمدرس.

كانت الأوضاع في السويداء تتأزم يوماً بعد يوم بسبب إعلان الأحكام العرفية ومنع التجول في معظم أحيائها ووصول قوات عسكرية إضافية مدرعة، وانتشار إشاعة قرار اتخذته الحكومة لاعتقال الوجهاء: حسين مرشد، فضل الله جربوع، حسين عبد الدين، جدعان وصياح أبو عسلي، هندي حمزة.. وغيرهم وأخبار تؤكد الحصال المشدد على بلدة القريّا، كل ذلك كان يبعث القلق في نفوس المواطنين، فذهب وفد من شيوخ المدينة وشبابها إلى سراي الحكومة لمقابلة المحافظ بغية لفت نظره إلى خطورة ما يحدث ويشاع فوجدوا لديه ولدى القيادة العسكرية رغبة في تهدئة الأحوال لأسباب يبدو أنها التالية:

1- لأن القوة العسكرية التي تحاصر بلدة القريّا لا تزال غير كافية لتحقيق الهدف من وجودها هناك.

2- لدخول نجدة من الأهالي المسلحين إلى القريا قبل إحكام الحصار عليها.

3- وجود مسلحين آخرين تمركزوا في مواقع ثلاثة خلف الجيش في قرية نمرة جنوب البلدة وفي الوعرة الشرقية الشمالية منها وفي سهلها الغربي. مع العلم أن طريق السويداء – القريا – بصرى الشام بقيت مفتوحة أمام الجيش، لم تهدم ففيها الجسور ولم توضع عليها الحواجز.

وبعد المداولة وافقة السلطة على ذهاب وفد وساطة إلى القريّا، مؤلف من الشيخين: أحمد جربوع وسلمان أبو عسلي، والوجيهين صالح نعيم وظاهر القنطار، لإقناع سلطان باشا بتسليم المسؤولين عن المظاهرة، ولكنه رفض قبول  هذا الطلب، ثارت ثائرة المسؤولين، فأعطيت الأوامر لمهاجمة القريّا غير أن مساعِ جديدة بدأت لإرسال وفد وساطة آخر علّه يتوصل إلى حل مناسب يحفظ كرامة الطرفين. فتقرر بعد أن أجري اتصاله، أن توقف السلطة العسكرية إطلاق النار في القريا، وكان الوفد وفد تشكل من الأمير توفيق الأطرش، قاضي المذهب سلام سلام، عبد الكريم نصر، فواز الشعراني، يحيى سرايا، شاهين أبو عسلي، أنيس جربوع، أنيس الأطرش، جير علم الدين، أحمد القنطار، وتوفيق بوز، وقدم هذا الوفد الاقتراح الذي أعده وهو التالي:

1-يجيئ وفد من وجوه القريا لمقابلة رجال السلطة تأكيداً للنية الطيبة.

2- تسليم مسببي المظاهرة في القريا.

3- انسحاب الجيش من جميع مواقعه حول القريا مع عدم التعرض لشخص سلطان باشا أو لأي شخص آخر في السويداء.

نجح الوفد بمهمته هذه حسب الشروط المبينة، وتم حضور ستة من وجوه القريا فأوفدوا في الثكنة العسكرية في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1954 كما تم تسليم المطلوبين من قادة المظاهرة والأسلحة التي أخذت من مخفر الدرك، وسمح بدخول قوة جديدة من الدرك عدد أفرادها خمسون على رأسهم قائدا كتيبتي درك حوران والجبل.

ثم كلف كل من : إسماعيل عز الدين، غالب عامر، وفواز الشعراني، بالاتصال بالمواقع العسكرية التي تضرب الحصار على البلدة لوقف إطلاق النار، تمهيداً لانسحاب الجيش بأكمله، كما سمح لأهالي القريا بدفن قتلاهم، على الرغم مما أبداه الضابط فيصل الشيشكلي من تردد في قبول الأمر.

ثم ذهب بعض أعضاء الوفد إلى موقف قرية نمرة لإقناع المتمركزين فيه بعدم إطلاق النار والعودة إلى قراهم، ولكنهم رفضوا العودة خشية أن يغدر بسلطان باشا.

في اليوم التالي 29 / 1 / 1954 عقد اجتماع في بيت المجاهد حسين مرشد للتداول في الأوضاع الراهنة فتشكل وفد جيد مؤلف من : القاضي سلام سلام، جاد الله عز الدين، وصلاح مزهر، لمقابلة العقيد فؤاد الأسود قائد القوات المسلحة في المحافظة، لمطالبته بالوفاء بوعده في انسحاب الجيش من القريا – وكانت بعض فصائله قد وصلت إلى السويداء، وفصيلاً آخر تمركز عند مفرق عرى – رساس، ومر فصيل آخر إلى السويداء، وفصيلاً آخر تمركز عند مفرق عرى – رساس، ومر فصيل آخر من قرب موقع نمرة متوجهاً إلى بصرى فأطلق المتمركزون في الموقع عليه النار ظناً منهم إن السيارات المدنية التي ترافقه تحمل سلطان باشا ورفاقه. وما أن وصل هذا الخبر إلى العقيد الأسود والوفد المذكور مازال عنده حتى سمعوه يقول بالهاتف: أخي فيصل (الحسيني آمر الفوج السابع) طوق البلدة، اقصفها، دمرها، الق القبض على الأشخاص أحياء أو أمواتاً وانتظر مني أوامر أخرى. ثم اتصل مع سهيل البرازي وهو آمر فوج آخر قائلاً له:

ساند الفوج السابع واقطع خط العودة على الجماعة.! وهكذا تمت مجزرة قرية نمرة، التي أجهز فيها الحاقدون من الجيش على الجرحى بعد مقتل جميع رفاقهم بينهم المجاهد سلمان حمد الأطرش الذي كان يلقب بدبابة الجبل أيام الثورة السورية الكبرى، والشيخ محسن قرقوط من قرية ذيبين وهو من الشيوخ المثقفين في الجبل.

ولما قال جاد الله غز الدين للعقيد الأسود: ما الداعي لاتخاذ هذه التدابية القاسية؟ أجابه: لن يتراجع الجيش وأفراده يقتلون ويجرحون قبل أن يضرب الضربة الحاسمة؟

وما أن وصلت أخبار نمرة إلى السويداء وعدم انسحاب الجيش حتى تداعى بعض الوجوه لعقد اجتماع في بيت فندي رضوا مساءً وكانت إحدى دوريات الجيش في السويداء قد لاحقت أولاداً يعبثون بصورة الشيشكلي فلجأوا إلى بيت في الحي الغربي من المدينة لم تكن فيه سوى امرأة، وإذا بها تفاجأ بدخول أفراد الدورية، فتصبح مذعورة ومستنجدة فيهرع بعض من كان في الجوار ويطلقون عيارات نارية في الهواء فتتراجع الدورية إلى وسط المدينة حيث ترابط بعض المصفحات والدبابات، وفصائل المشاة تملأ الشوراع الرئيسية والتي أخذت تطلق النار عشوائياً على البيوت في كل اتجاه حتى الساعة العاشرة ليلاً.

وفي يوم الثلاثين من كانون الثاني عام 1954 لم يتمكن الأهالي من الخروج من بيوتهم دون تصريح مرور من السلطة ومع ذلك فلم ينج أحد من حاملي التصاريح من الضرب والركل والشتائم من بعض العناصر العسكرية.

وفي اليوم التالي ذهب وفد كبير إلى مقر المحافظة لمقابلة العقيد الأسود مؤلف من شيوخ العقل الثلاثة وبعض وجوه المدينة وأعضاء الوفد السابق الذين عادوا من القريا ومعهم وجيهان آخران هما: داود أبو عساف وتوفيق القلعاني ليؤكدوا للعقيد أن ليس في نية أحد من الجبل القيام بثورة، وليطلبوا منه العمل على وقف الدوريات العسكرية في الشوارع والأحياء منعاً للاحتكاك مع الأهالي ونقلوا إليه خبر مقتل شيخ ضرير وهو خارج صباحاً من (مجلس الذكر) وشاب يدعى حمد ضامن القنطار وحسن وحسين سرايا، ويوسف الأباظة، وجادو خزعل (الذي مات تحت التعذيب).. وغيرهم.

إبان تلك الفترة العصيبة من تاريخ سورية عامة ومحافظة السويداء، خاصة كانت الأخبار عن استمرار محاصرة الجيش لبلدة القريا تصل تباعاً إلينا، إذ أنني كنت في الحقيقة على صلة مباشرة بجبهة المعارضة لحكومة الشيشكلي مع العديد من زملائي في التعليم الذين ينتمون إلى حزب البعث من بينهم :عيسى عصفور، شحاذة حوشان، محمود الجغامي، سلمان هنيدي، معذى أبو الفضل، ذوقان قرقوط، سهيل العيد، نجيب وشحادة مطر، توفيق عبيد، وغيرهم.

وكان بعضهم معتقلاً مثل منصور الأطرش وشبلي العيسمي، أو منقولاً إلى بعض المحافظات الأخرى مثل سلامة عبيد وسلمان معروف. كما كنتُ على صلة بالمحامين حسين عبد الدين وصياح أبو عسلي، وعندي حمزة، وبقاضي المذهب سلام سلام وبعض أعيان المدينة مثل: حسين مرشد، جدعان أبو عسلي، فضل الله جربوع، أحمد قطيش، سليم مزهر، كان هؤلاء يعقدون اجتماعات في بيوت الأحياء الغربية من المدينة، فأتلقى دعوة لحضورها بواسطة الأستاذ حسين عبد الدين، وكانت الصلة بين هؤلاء وبين سلطان بالقريا تتم بصورة منتظمة، عن طريق بعض الشباب المتطوعين لوضع الخطط المناسبة لمواجهة الخطر المحدق بالبلاد عامة، وبمحافظة السويداء خاصة، وكذلك خطر الحصار المضروب على القريا بهدف القبض على القائد العام للثورة السورية الكبرى، ونقله إلى دمشق لمحاكمته بتهمة ملفقة هي الاتصال بإسرائيل وتلقيه السلاح منها لإعلان الثورة على الحكومة الشرعية القائمة في البلاد.

ويبدو أن العقيد الشيشكلي قد لمس بعض التهاون من العقيد فؤاد الأسود خلال تنفيذه لخطته المرسومة، فاستبدله بالعقيد رسمي القدسي الذي اشتر بتعصبه الديني وحقده الدفين على أبناء المحافظة. وإثر وصوله إلى السويداء استدعى شيوخ العقل والأعيان في المحافظة ليعلن لهم إنه إنما جاء لتولى قيادة الجيش لا ليقوم بعمليات عسكرية ضد المدنيين، بل ليسعى إلى التفاهم بواسطتهم مع سلطان باشا ومن إلى جانبه من المعارضين لسياسة الحكومة، وبأن يبلغوا من الفور جميع المواطنين هذا التوجه السلمي باسمه وباسم الحكومة كي يعودوا جميعاً إلى بيوتهم آمنين مطمئنين. (وهذا الأسلوب التطميني استخدمه عام 1910 القائد العثماني سامي باشا الفاروقي في حملته الشهيرة على الجبل).

كنت حاضراً في الاجتماع المنعقد في دار أبي داود سليم مزهر وحضره عدد كبير من وجهاء المدينة حينما دخل أعضاء الوفد يتقدمهم شيخ العقل يحيى الحناوي، وأخذ يتحدث عن المهمة المكلف بها مع مرافقيه ليطمئن الحاضرين بأن القائد القدسي قد تسلم قيادة الجيش في المحافظة ليعمل على إخماد نار الفتنة، وإشاعة روح الإخاء واللألفة بين جميع المواطنين، وإنه ينتظر جواباً من الأعيان والشباب الحاضرين في هذا الإجتماع، وعما إذا كانت لديهم مطالب تستوجب رفعها إلى الحكومة بدمشق، لدراستها واتخاذ القرارات المناسبة تحقيقاً لأمن البلاد عامة وإستقرارها.

وانبرى الأستاذ حسين عبد الدين للرد على ما تقدم به رئيس الوفد وكأنه يرافع في محكمة دفاعاً من مواطنين اغتصبت حقوقهم واستبيحت حرياتهم وكراماتهم لا في محافظة السويداء فحسب وإنما في سائر المحافظات السورية معدداً بصوته الجمهوري مطالب الشعب قائلاً:

 1- إلغاء الأحكام العرفية المعلنة.

2- الموافقة على مقررات المؤتمر الوطني الذي عقد في حمص بتاريخ 4 / 7 / 1953 (وكان قد حضره من السويداء كل من: منصور الأطرش، شبلي العيسمي، حسين عبد الدين، حسين مرشد، صياح أبو عسلي، يوسف العيسمي، وفضل الله جربوع).

3- سحب القوات المسلحة من محافظة السويداء وعودتها إلى مواقعها في الجبهة المواجهة لإسرائيل.

4- الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين المعارضين للحكومة (كان في جملتهم : الأمير حسن الأطرش، والعقيد زيد الأطرش أخو سلطان).

فإذا أقرت الحكومة هذه المطالب، فإن المعارضة تلتزم الهدوء والسكينة في جميع أنحاء البلاد. وعند سماع أعضاء الوفد لهذه المطالب لم يسعهم إلا أن يخرجوا من مكان الإجتماع دون مناقشة لأنهم كانوا على يقين بأنها مطالب مستحيلة التحقيق في ذلك حتى أن بعضهم كان يخشى نقلها وإيصالها إلى العقيد رسمي القدسي، وقد هالهم الأمر أيضاً عندما شاهدوا بأنفسهم كيف خرج العشرات من الشباب الحاضرين إلى الساحة المجاورة يرددون الأغاني الحماسية الشعبية ويطلقون الرصاص في الهواء.

كان الوقت ظهراً عندما غادرت مكان الإجتماع برفقة الأستاذ حسين عبد الدين، وقبل أن يتوجه كل منا إلى بيته سألني عما إذا كنت مستعداً لحضور الإجتماع المقرر في الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم فوافقت، إلا أنه لم يسم صاحب الدعوة ومكانها واتفقنا على أن أمر عليه في بيته مساء للذهاب معاً. ثم مضيت إلى بيتي مخترقاً طريقاً لا يمر بسوق المدينة كي أجنب نفسي الالتقاء بالدوريات العسكرية، ورحت أسارع الخطى عير أزقة ضيقة حتى وصلت إلى البيت من جهة الجنوب فوجدت والدي نائماً في فراشه جراء مرض العصبي المستمر وأمي تنتظر عودتي مشغولة البال، وابنتي منى إلى جانبها تتلهى بإلباس دميتها التي اشتريتها لها قبل أيام. وقبل أن انتهي من تناول الطعام بدأت أسمع ضجيج الدبابات وناقلات الجند القادمة من الجنوب الشرقي وهي تنحدر من الثكنة العسكرية الكبرى في رتلين: الأول سلك الجهة الشمالية من المدينة، والثاني الجنوبية بهدف تطويق المدينة حيث يلتقي الرتلان في الجنوب الغربي منها. أما المشاة فقد دخلوا البيوت لقتل من يقاوم وروعوا النساء والأطفال وحطموا الأواني والأثاث وساقوا الرجال الآمنين في بيوتهم إلى الثكنة العسكرية ونقلوا الكثيرين منهم إلى سجون دمشق كنت أخشى أن يبدي والدي اعتراضه على انتهاك الجنود لحرمة البيت رغم مرضه، فقلت له: أرجوك أن تترك لي أمر التفاهم مع الجنود القادمين إلينا. وما هي إلا دقائق حتى شاهدت عدداً منهم يقفز من فوق التصوينة الحجرية القائمة في الجهة الغربية من عقارنا، ثم أخذوا يقتربون من البيت، فخرجت عندئذ لتقع أنظارهم علي وليتأكدوا بأني أعزل من السلاح، فاقترب مني أحدهم مصوباً بندقيته نحو صدري قائلاً لزملائه بلهجة بدوية: (أريد أطقو) أي أريد إطلاق النار عليه، فلم أحرك ساكناً، وقلت في نفسي: دقت ساعة النهاية على يد هذا البدوي الأرعن، غير أن آمره اقترب مني فرآني أرتدي ثياباً مدنية غير محلية فصاح بالجندي قائلاً: أبعد سلاحك عنه، ثم خاطبني قائلاً: هل أنت من أبناء هذه المحافظة؟ فأجبته: نعم. فقال: ما هو عملك؟ قلت: مدرس في الثانوية. فسأل : من هنا داخل البيت؟ قلت: والدي وابنتي الصغيرة، فأمر الجنود بالدخول أمامه فرأوا والدي في فراشه وأمي تحتضن ابنتي، فوجه كلامه إلى الطفلة قائلاً: أي هي بارودة والدك؟ فنهضت من حضن جدتها وتوجهت إلى مكان وأحضرت بارودة خشبية كنت قد اشتريتها لابني زياد وناولته إياها بكل براءة، فضحك وقال للجنود: كفى لا تخيفوا هذه الطفلة، ولكنه أمرهم بتحطيم أبواب خزانة الملابس وإنزال فرش النوم من المطوى دون أن يجدوا شيئاً مما يطلبون.

بعد ذلك أخرجوني ووالدي من البيت إلى الطريق العام حيث كان عدد كبير من الجيران يسيرون رافعين أيديهم إلى أعلى فضمونا إليها ومضينا رافعين الأيدي كأسرى حرب إلى أن وصلنا دار بشير أبو العلا في الحي الجنوبي من المدينة والرصاص يئز من حولنا وفوق رؤوسنا- رصاص الجيش والمقاومة في الأحياء القريبة منا-. وعندما أدخلنا إلى المضافة وجدناها مليئة بأمثالنا من أهالي المدينة، لا يستطيع أي منهم التكلم مع غيره، وبقينا هلى هذه الحال حتى الساعة التاسعة ليلاً حتى دخل علينا الضابط الشهم عدنان حمدون ليقول لنا: نسمح لكم بالخروج والعودة إلى بيوتكم فرادى، فلا تعكروا صفو الأمن الذي استتب في كل أنحاء المدينة. خرجت مصطحباً والدي إلى البيت حيث وجدت أمي تحتضن ابنتي فكان سرورها عظيماً بعودتنا سالمين وكانت زوجتي في تلك الفترة في بعقلين بلبنان مع ابني زياد.

وقد علمنا في اليوم التالي أن الثكنة العسكرية الكبرى لم تتسع لجميع الموقوفين مما جعل القيادة تتساهل في أمر إخلاء سبيلنا.

أما رجال المقاومة فقد تمكنوا من الانسحاب فجراً من الضاحية الجنوبية الغربية  للحاق بسلطان باشا ومع معه من المقاومين بعد خروجهم من القريا إلى قرية سهوة البلاطة ثم قرية الكفر.

وتوجه الجميع إلى قرية الرشيدة، تحت عاصفة من الرياح والثلوج المتساقطة ثم توجهوا نحو الحدود الأردنية وكان عددهم تسعة وثلاثون وهم: أجود المغربي، جاد الله شلهوب، جدعان أبو عسلي، جميل الشاعر، حسن رعد، حسن الصفدي، حسين سجاع، حسين عبد الدين، حسين مرشد، حمد جودية، سعيد البربور، سعيد حمايل، سعيد خزعل، سليم عبدي الأطرش، سليم جودية، سلمان سجاع، صقر سجاع، صياح أبو عسلي، ضامن البربور، علي ذوقان الأطرش، علي الشاعر، فايز الأطرش، فايز حمايل، فايز غريزي، فضل الله البربور، فؤاد جودية، فواز رضوان، متعب الأطرش، محمود طربيه، ناصر سلطان الأطرش، نايف جودية، نسيب نصار، نواف علي الأطرش، نواف فايز الأطرش، هاني جاد الله الأطرش، هايل جدعان الأطرش، هايل قاسم بلان، هايل علبة ويوسف هلال الأطرش.

وجدير بالذكر أن عدداً من ضباط الحملة الشيشكلية قد أظهروا خلال العمليات العسكرية ما كانوا يتحملون به من مشاعر وطنية نبيلة وصادقة في معاملة الأهلين، وكانوا حريصين على عدم تنفيذ التعليمات والأوامر الجائرة  للقيادة العليا معرضين أنفسهم لمحاسبة الحكومة الدكتاتورية، وهذه أسماء من عرفناهم: عدنان حمدون، عبد الله زيادة، أحمد كزبري،ألبير كلاجيان، محمد هواش، جميل الأسعد، عبد الغني الإبراهيم، وائل قدري، أحمد خضور، سعيد قزيز، بيبرس أنجوق، وعبد الله الجندي.

أما الضباط الذين كانوا ينفذون تلك الاوامر بدافع من ولائهم المطلق للنظام وممثله في المحافظة رسمي القدسي فهذه أسماء من عرفناهم: فيصل وصلاح الشيشكلي، سمير الخطيب، شمس الدين الجندلي، زكريا هارون، أسعد الحكيم، بدر أعسر، محمد أبو حجلي، محمود مير خان، مطيع السمان، عدنان مراد، فيصل الحسيني، سهير البرازي، وعبد الحق شحادة.

ومن الأمثلة التي دلّل بها هؤلاء على تعصبهم الديني وإثارتهم للنعرات الطائفية والمذهبية ما ألقاه كل من المقدم فيصل الحسيني، والرئيس فيصل الشيشكلي من توجيهات إلى جنودهم في ساحة الثكنة العسكرية التي أنطلقوا منها لتطويق المدينة، مذكرين العلويين منهم بما تنص عليه بعض رسائل الدعوة التوحيدية (الدرزية) المزورة من تهم باطلة بحق بعض شيوخهم المعاصرين لتلك الدعوة، كما ذكروا الجنود البدو ما كان لآبائهم من ثارات قديمة على الدروز، وإن الفرصة قد جاءتهم للرد عليها دون رحمة أو تساهل.

بعد أن أمضيت نحو أسبوع في البيت أستمع خلاله للأخبار من إذاعات عربية وأجنبية تتحدث جميعها عن اجتياح القوات الشيشكلية للجبل أبلغت بوجوب الالتحاق بعملي التدريسي وإن مديرية التربية قد عممت بلاغاً لإجراء الامتحانات النصفية في جميع المدارس.

كان ذلك في شهر شباط من عام 1954 والثلوج تتساقط بغزارة دون انقطاع والطلبة يعانون من البرد القارس أثناء صعودهم الهضبة الموصلة إلى الثانوية.

وفي اليوم الأول المخصص لتلك الإمتحانات في الحادي والعشرين من شباط بدأت بتوزيع الأسئلة على الطلبة في إحدى القاعات، وإذ بي أشاهد من نافذتها المطلة على الباحة مجموعة من أفراد الشرطة العسكرية تتجه إلى غرفة الإدارة يتقدمها رئيس المكتب الثاني (المخابرات العسكرية) أسعد الحكيم، وإلى جانبه رئيس الأمن العام سعد الدين الجراح يحملان أوامر بتوقيف موقعة من العقيد رسمي القدسي للعديد من المدرسين، وقبل أن تنتهي المدة المقررة للامتحانات استدعاني المدير إلى مكتبه، وعندما تأخرت قليلاً لأجمع أوراق الامتحان جاء الآذن مسرعاً وقال: الضابط يقول لك احضر حالاً، فغادرت القاعة تاركاً الطلبة يعبثون بأوراق الامتحانات.

وما أن دخلت غرفة الإدارة حتى أمر ذلك الضابط رجاله بأخذي والخروج بي من المدخل الفرعي الشرقي للثانوية حيث كانت سيارة بيك آب عسكرية واقفة وفي داخلها حوالي سبعة من المدرسين والمعلمين واستكمالاً للطريقة المهينة الفظة لم ينتظروا لأصعد إلى البيك آب بنفسي وإنما حملوني حملاً ورموني لأسقط على ركب الزملاء الجالسين فيه.

ثم انحدرت بنا السيارة إلى قيادة الموقع الكائن شرقي نادي الضباط حيث اتصل الضابط المرافق لنا بالمسؤول هناك فقيل له: كلمنا فيما بعد، لا يوجد لهم مكان في سجن المزة بدمشق، وإن عليه إعادتنا إلى مقر الشرطة العسكرية المجاور للثانوية لإجراء التحقيقات، وهناك بدأت عمليات التعذيب الفردية في التحقيق إلى أن جاء دوري فأدخلت إلى مكتب المحققين وكان على رأسهم وكيل ضباط فبادرني بلهجة النصح والتحذير قائلاً: انظر إلى هذه الأدوات المعلقة على الجدار (أدوات التعذيب) فإذا لم تعترف بالحقيقة عن الدور الذي كنت تقوم به ضد الحكومة فسوف تعاملك بما تستحق. نفيت ما نسب إلي في تقارير المخبرين، فنهض عن مقعده وأومأ إلى اثنين من الشرطة قائلاً: (دبروه) ولكن ما كاد يعطيها الأمر بذلك حتى رن جرس الهاتف طالباً إياه التكلم مع أحد ضباط المخابرات، عرفنا اسمه فيما بعد وهو الملازم عبد الإله الجندي. وقبل أن يتابع كلامه مع الضابط المذكور، أومأ إلى أحد الشرطة ليخرجني من الغرفة إلى الشارع، حيث وقفت نحو عشر دقائق في البرد القارس والثلج يهطل عليّ بغزارة إلى أن فتح الباب واستدعيت للدخول وإذا بالمحقق يبادرني بقوله: أجلس يا أستاذ يوسف على هذا الكرسي وأكتب على هذه الورقة ما تدافع به عن نفسك، ففعلت وأنا مندهش لذلك التحول السريع في معاملته لي، ثم طلب من الشرطي أن يأخذني إلى الغرفة التي سبقني إليها زملائي بعد التحقيق معهم، لقد استبشرت خيراً خلال تلك المعاملة وأخبرت زملائي بما حصل لي فزالت عنهم مشاعر القلق وكانت الساعة قد بلغت الثامنة مساء عندما طلب منا الخروج لنركب شاحنة عسكرية والثلج يتساقط بغزارة ونقلنا إلى السجن المدني الكائن غربي دار الحكومة حيث تم تسليمنا إلى إدارته العسكرية وإدخالنا جميعاً إلى غرفة واحدة مكتظة بالمساجين وسط روائح كريهة آتية من زوايتها التي وضع فيها برميل صغير لجمع بول المساجين.

أمضيت في هذا السجن نحو عشرة أيام مع زملاء أذكر منهم: محمود الجغامي، شحاذة حوشان، سلمان هنيدي، سهيل العيد، عطا الله الجودة، فهد أبو حمدان، ونايف حاتم.

وكان في غرفة مجاورة نحو ثلاثين سجيناً من آل الأطرش وعائلات أخرى، وكنا نشهد جميعاً خلال خروجنا اليومي إلى باحة السجن مآسي التعذيب للعديد من المساجين أحدهم يدعى حسن العنداري من قرية حبران، وكان الضابط الذي يتولى عملية التعذيب ينظر إلينا ويقول بسخرية: سوف يصلكم الدور، ليس هنا وإنما في سجن المزة بدمشق.

أما الذين استشهدوا في المدينة ومختلف قرى الجبل ناف عددهم عن سبعين شهيداً عدا الجرحى وعرفت منهم: جهاد يوسف الأطرش، جادو غزعل، يوسف الأباظة، سلمان الأطرش، محسن قرقوط، حسيب وملحم الغريزي، أحمد وحسين حسن سرايا، نجيب وسليمان الفقيه، والشيخ أبو يوسف أمين جعفر (الضرير).

وفي اليوم العاشر من اعتقالنا فوجئنا بأصوات المتظاهرين من طلابنا وقد تجمعوا أمام دار الحكومة يشاركهم عدد كبير من أهالي المدينة وهم يهتفون فرحين بسقوط الشيشكلي وأعوانه ثم أطل علينا من فتحة غرفة السجن الضابط المسؤول ليقول لنا مهنئاً استعدوا يا إخوان للخروج فالجماهير بنتظاركم في الشارع، وما أن وصلنا إلى الباب الخارجي حتى سارت العشرات من الطلاب إلى إستقبالنا .

وحملونا على الأكتاف وساروا بنا مع المتظاهرين مروراً بالشارع الرئيسي من المدينة حيث كانوا يتوقفون ليلقي أحدنا كلمة على الجماهير المحتشدة حول موضوع تلك المناسبة.

كنت متعباً فلم استطع المضي وأنا محمول على تلك الصورة فنزلت عن كتف من كان يحملني وأبديت رغبتي في الذهاب إلى البيت حيث وجدت والدي بانتظاري ودموع الفرح تملأ وجناتهما وابنتي منى تمسك بيد جديتها فرحة، ثم أقبل العديد من الجيرات لتهنئتي بسلامة العودة والخلاص من تلك المحنة)(1).


(1) الدبيسي (يوسف)،  سيرتي الذاتية، صـ 96 – 117.

المصدر
سيرتي الذاتية، يوسف سليم الدبيسي، 96- 116



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى