شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – منعطف حاسم في مسيرة حياتي
من مذكرات أكرم الحوراني (11 /101)
من مذكرات أكرم الحوراني – منعطف حاسم في مسيرة حياتي:
وهذا فوجئت بدخول التجربة الكبرى..
فجأت أخذت من عالمي الشخصي الخاص إلى عالم المسؤولية والشعور بالعبء الثقيل.. لم أعد مسؤولاً أمام نفسي ورفاقي في الحزب، بل أصبحت ملزماً – على حين غرة- بأن يكون سلوكي وأقوالي وأفعالي في مستوى معركة الوطن الكبرى وأن تكون اهتماماتي وأفكاري ومشاغلي من وحي متطلبات الجماهير.
ومنذ أن فؤجئت بالترشيح للانتخابات ، وخلال المعركة الانتخابية المضنية والمضطربة، وعندما قررت لجنة الإصلاح أن أكون نائباً عن المدينة، وعندما فزت بالنيابة، كنت في حالة من اضطرام المشاعر والغليان الذهني والنفسي يصعب وصفها. إن الإنسان ليعجز في كثير من الأحيان عن التعبير عن مشاعره. لا لعمقها أو غموضها فحسب بل لتضاربها وتشابكها وعنفها. وهذه هي التجربة الصعبة التي يعاني منها كبار الشعراء والمتصوفة، ولا أظن سوى العباقرة من الموسيقيين استطاعوا جيداً التعبير عنها.
وكان مما يزيد من عنف اضطرام مشاعري وأفكاري أن الوقت كان قصيراً جداً في تلك المعركة الانتخابية العاصفة التي ل أكن قد هيأت نفسي لها.
كما أن الاكتشاف الذي أتاحته لي ظروف الحفلات الانتخابية كان اكتشافاً مذهلاً إلى حد صاعق سيؤثر على سلوكي في العمل الوطني مدى الحياة، ذلك هو اكتشاف مبلغ بؤس هذه الجماهير الطيبة الوطنية. كنت أرى في الحفلات الانتخابية الأعرج، والكسيح، والأصفر الوجه من فقر الدم، ومن يرتدي الأسمال البالية، ومن تخيفك شدة هزاله، ومن لا يتمكن من شراء كيلو أرز لعياله إلا مرة واحدة في السنة بمناسبة عيد الفطر.. وكنت أهتز في أعماقي لما أرى. وحين تتاح لي ساعة فراغ كنت أحدث رفاقي عن ذلك فأسمع من علي عدي، وهو المعلم في مدرسة ابتدائية، قصصا مؤثرة عن شدة فقر التلاميذ الأطفال، وصفرة وجوههم من فقر الدم، وجوعهم وارتجافهم من البرد.. وسوف يرد في صفحات تالية من هذه المذكرات أن بعض الصحف السورية ذكرت، في سنة 1948، أنباء عن عدد من تلاميذ مدرسة دار العلوم الشرعية نقلوا إلى المستوصف بعد أن سقطوا فوق مقاعد الدراسة مغمياً عليهم بسبب الجوع.
إن المعركة الانتخابية مناسبة فريدة لاكتشاف أعماق بنية المجتمع وحقيقة أوضاعه، لأنها ترمي بأحشاء المجتمع تحت نور الشمس.. إنها مثل مجهر كبير يوضح للعينين الدقائق والخفايا. ولقد ذكرت فيما مضى ما تتيحه مهنة المحاماة من ظروف للتعرف على أوضاع المجتمع، وقد تشابهها مهنة الطب. ولكن احتكاكات المحامي بموكليه، وزيارات الطبيب لمرضاه في بيوتهم، لا تقدم إلا لمحات جزئية مبعثرة بالنسبة للصورة الكلية الواضحة الصارخة الجارحة التي تقدمها ظروف المعركة الانتخابية.. وهذا مما يزيد الشعور بمعظم المسؤولية حيال تلك الجماهير البائسة التي تضع قضية إنقاذها من البؤس ووتحررها أمانة في عنقك.
تلك كانت بعض المشاعر والأفكار التي كانت تضطرم كالبركان بين جوانحي. وكان يحز في نفسي أن أرى حلفائي بالمعركة أكثر مني خبرة وتجربة وممارسة في فهم نفسية الجماهير. كان حلفاء المعركة مجموعة غريبة لا تجمعني ببعضهم أية روابط فكرية ولا عاطفية نظراً للاختلاف في السن والعقلية والتجربة والأهداف.. ولم تكن لي تجربتهم الاجتماعية ومعرفتهم بنفسية أبناء الطبقة الوسطى التي كانت تتمثل بأرباب الأسر الصغيرة في الأحياء والتي كانت تشكل دعامتنا الانتخابية في هذه المعركة لذلك تولى رئيف الملقي وحده- عجزاً مني لا اختياراً – أمر الاجتماعات بهم في الكواليس لأنه يفهم لغة هذه الطبقة ومشاعرها ويدرك تقلباتها وكان هذا الأمر يحز في نفسي نظراً لأننا كنا نستنكر على الكتلة الوطنية السابقة مثل هذه العلاقات، وكنا نؤمن بضرورة قلبها واستبدالها شيئاً فشيئاً بعلاقات مباشرة مع الجماهير.
لكننا – بسبب الشعور بالقصور عن قيادة المعركة على النحو والأسلوب الذي نرغب ونريد – كنا مضطرين للإغضاء عن كثير من أساليب حلفائنا التي كنا نستنكرها في السابق.. وفي معظم الأحيان لم يكن التعامل مع بعض حلفائنا سهلاً، إذ كانوا مصابين بعقم التفكير وانغلاق الذهن وعقد نفسية مرضية. وهم بشكل عام لا يختلفون في العقلية والسلوك عن خصومهم “الذوات” إلا بالمنشأ أما علاقتي بالناس فقد أصيبت بتبدل جذري مفاجئ. فلم أعد “أكرم الحوراني” بل أصبحت “المرشح للنيابة”. وكانت النيابة، في تلك الأيام أمراً عظيماً وكبيراً جداً. وكنت صغير السن فضاعف من شعوري بالمسؤولية أن جمهور المدينة، رغم ذلك، تقبلني بشكل أكبر بكثير مما كنت أتوقعه وأنتظره. وقد كان حماس الجماهير لي موضع رضى رئيف الملقي وارتياح صادق من قبله ومن قبل جماعة الشباب لم يخالطه أي شعور بالخوف أو الحذر أو الأنانية. بل كان داعية لثقة رفاقي الشباب بأنفسهم وترسيخ أقدامهم في صفوف الجماهير.
وكلما كان الجمهوري يندفع بحماسه وتأييده كنت أشعر بأني أنوء بعظم المسؤولية. وهنا لابد لي أن أذكر أولئك الصحفيين الذين صاروا فيما بعد يكتبون المقالات عني بأنني”الزعيم الذي دخل البرلمان ببنطلون قصير” رمزاً لصغر سني عندما مررت بتلك التجربة المصيرية في حياتي. فهم لم يأخذوا من الأمور إلا مظاهرها. ولو أنهم كانون في حماه أثناء المعركة 1943 الانتخابية لأحسوا- ربما- ببعض ما كان يضطرم في نفسي من مشاعر: إذ كيف يمكنني أن أكافئ هذا الجمهوري الطيب الطاهر الذي يسحقه البؤس سحقاً طاحناً؟ .. إن إخلاصي له وحرصي على مصلحته وجه من المسؤولية واثق به من نفسي.. ولكن المسألة ليست مسألة إخلاص وتفان وتجرد. بل المطلوب: عمل .. إنني سأذهب إلى برلمان يضم أساطين الساسة المجربين الذين تدعمهم قوى وعوامل نفوذ لا حدود لها. إنني غريب عن أجواء هؤلاء، وأخشى أن أكون ضعيفاً أمامهم فلا أتمكن من أن أحقق ما قطعت على نفسي أمام الشعب العهود بتحقيقه.. فأجيب نفسي: إن شعبنا طيب وواع، وقد يغفر لي ضعفي ويقدر موقفي، ولكنه لا يغتفر انحرافي.. هكذا كنت أسترد بعض الثقة بنفسي.
وعلى كل حال كنت في حالة نفسية لا أحسد عليها:
شعور بالخجل والحياء العميق.
شعور بالامتنان والحب لهذه الجماهير الرائعة.
شعور بالخوف من المستقبل.
شعور بالفرح لهذه القفزة غير النتظرة.
شعور بعبء المسؤولية الثقيل.
شعور بالارتباط بتخطي بداية الدرب الجديد المجهول.
شعور بالاشمئزاز والكراهية لأخلاقية الطبقة الإقطاعية والعائلية.
الوف من المشاعر والانفعالات الأخرى التي كانت تنتابني والتي لا يمكن تحديدها. لقد دخلت في عالم جديد. وكان هذا ملحوظاً من رفاقي ومن الناس..
وبالإضافة إلى هذه المشاعر والانفعالات على مستوى العاطفة- ما هي الأفكار والوقائع- على مستوى العقل والتفكير النظري- التي كشفت عنها تلك المعركة الانتخابية وكانت مرتكزاً يفسر سلوكنا السياسي في المستقبل؟
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني (100) – على هامش معركة الانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (99) – شكري القوتلي يوافق ويبارك
من مذكرات أكرم الحوراني(98) – لجنة الإصلاح في حماة 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (97) – موقف الكتلة الوطنية من انتخابات حماة عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (96) – طبول فتنة دامية
من مذكرات أكرم الحوراني (95) – انفجار الشعار الحاسم
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: