شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (11 /88)
من مذكرات أكرم الحوراني – انهيار الكتلة الوطني في عهد الشيخ تاج:
كنت أسمع الصبية في أزقة حماه يقولون: “هاشم بك، ما يتليق لك الوزارة.. يا أمير يا شيخ تاج على زمانك شبعنا كماج – خبز”.
كنت أسمع هذا فترجع بي الذكرى إلى ثورة الشعب عام 1936 وكيف كان الشعب يهاجم بيت الشيخ تاج في حي الحلبوني بدمشق ويرميه بالحجارة، ولما عجزت السلطة عن حمايته غادر البلاد هارباً إلى فرنسا.
كان يخيل لكل من عاش تلك الفترة أن الشيخ تاج سوف يتعرض للاغتيال إذا أعادته فرنسا للحكم مرة ثانية.. وها إن الشتائم توجه لهاشم الأتاسي رمز الكتلة الوطنية والثناء يوجه للشيخ تاج رمز التعاون، فكيف أنقبلت الأمور هكذا خلال خمس سنوات فقط؟ أهو الدين؟
إن الشعب في ثورة 1936، لم يسقط الشيخ تاج وحده بل أسقط معه كل رجال الدين الذين تعاونوا مع الانتداب الفرنسي وظل هؤلاء مدانين بنظر الشعب إلى ما بعد الجلاء.
ربما كان توفر الخبز بعد دخول قوات الحلفاء أحد الأسباب ولكنه ليس السبب الوحيد.
إذن ما هي الأسباب الأخرى لانهيار شعبية الكتلة الوطنية التي قادت البلاد خلال حقبة طويلة من الزمن؟
كان من الأمور المسلم بها آنذاك أن تراجعات الكتلة الوطنية أمام فرنسا، ومساوماتها، ومسايرتها، وانهزامها، وخسارة اللواء وحكم المزرعة والاستغلال الذي مارسته الكتلة خلال فترة حكمها ما بين عامي 1936 و1940 هو السبب الرئيس في انتكاس الحركة الوطنية وانهيار الكتلة التي كانت تقودها. فالفرنسيون لم يقيموا حكومة المديرين إلا على أشلاء الكتلة التي طعنت الحركة الوطنية في الصميم، ومن هنا تبرز أهمية محاولة اغتيال بهيج الخطيب التي كان يمكن أن تكون بداية الطريق في لم شعث القوى الوطنية، وإيقاظها وإنقاذ الحركة من الانهيار، ولكن الكتلة فعلت عكس ذلك فحرضت مع المشايخ والفرنسيين لاغتيال الدكتور الشهبندر. فكانت هذه الجريمة المسمار الأخير في نعش الكتلة الوطنية.
ولو استعرضنا أسماء الوزراء بعد عهد حكومة المديرين نجد بينهم عدداً وافراً من قادة الكتلة الوطنية، أما من تخلف منهم فلأن الفرصة لم تسنح له، ولهذا أصبح الشعب يرى أن قادة الحركة الوطنية الذين كان يسير ورائهم فترة طويلة، هم كالشيخ تاج وأضرابه من المتعاونين مع الانتداب.
ومن حسن الحظ أن شكري القوتلي، منذ بداية عهد حكم الكتلة الوطنية، استقال من وزارة المالية في الحكومة المردمية احتجاجاً على توقيع جميل مردم في غيابه على اتفاقية البنك السوري. وبذلك ظل شكري القوتلي وهاشم الأتاسي الشخصين اللذين لم يفقدا اعتبارهما النهائي في نظر الشعب، وعلى هذا الأساس زاول القوتلي نشاطه فيما بعد، لاسيما بعد أن رفض هاشم الأتاسي- الذي كان أكثر منه شعوراً بالمسؤولية- أن يقوم بالدر الذي قام به القوتلي، فاعتذر عن أن يكون رئيساً للجمهورية وقائداً للمرحلة القادمة. كما صرح بذلك الجنرال كاترو نفسه.
لقد أوغل الشيخ تاج في تمزيق الحركة الوطنية مستغلاً الدين، وتمكن أن يتغلغل في الأحياء الشعبية ويلف حول ضلاله الجمهور.. ولو قدر له أن يبقى حياً لما تمكن شكري القوتلي من النجاح في انتخابات عام 1943 بدمشق. والدليل أن الشيخ تاج، رشح نفسه، على ذكرى والده، لتلك الانتخابات فنال أصواتاً تسود لها وجوه قادة الكتلة الوطنية.
جريمة إقطاعية تؤدي إلى توحيد الصف الوطني في حماه
في أواخر عام 1942 وقعت جريمة قتل أدت لقيام أول التقاء بين الكتلة الوطنية في حماه وبين حزب الشباب، وذلك بسبب توكيل محامين بالدعوى القضائية التي أعقبت تلك الجريمة.
كانت القتيلة هي الأبنة الوحيدة لتوفيق البرازي بعد مقتل أخيها محي الدين في سوق الغرب في لبنان بظروف غامضة عم 1939، وقد قتلت بينما كانت تهم بالدخول إلى منزل شريف البرازي المقابل لباب بيتنا مباشرة، وذلك عندما فاجأها ابن عمها صالح بن خالد الدرويش البرازي فأطلق عليها النار وأرداها قتيلة، وعندما عدت إلى البيت وجدت والدتي تبكي، فتألمت كثيراً لأن سبب هذا الاغتيال- كما يعرف الجميع – طمع صالح البرازي واخوته بوراثة عمهم بعد أن أصبح بلا ذرية، وقد أصبحت هذه الجريمة موضع اشاعات واتهامات كثيرة اثبت التشريح بطلانها.
كان من عادة الطبقة الاقطاعية في حماه حصر إرث الأراضي بالأبناء الذكور بما يشبه من بعض الوجوه التقليد البريطاني بحصر إرث الأراضي بالإبن الأكبر، وهذا ما يتنافى مع الشرع الإسلامي الذي يقضي بتوريث النساء، كما يتنافى مع قانون الأراضي الذي يساوي في وراثة الأراضي الأميرية بين الذكور ولإناث، وهكذا كان يقضى على بنات الأسر الإقطاعية بالحرمان من إرث الأراضي بالتنازل الإرغامي، وما جريمة صالح البرازي إلا حلقة من سلسلة جرائم مماثلة ظالمة وجائرة استهدفت النساء والبنات بحجة الدفاع عن العرض وما شابه ذلك.
كان والد الفتاة متوجساً خيفة من اغتيال ابنته بعد مصرع ولده في سوق الغرب، وها قد وقع ما كان يخافه ويخشاه، وكان إلى ذلك ضعيفاً يحس بأنه أصبح بعد مقتل ابنه لا عصبية تسانده حيال أخيه خالد الدرويش المشهور بالقسوة والعنف والذي يكون أولاده عصبة فتاكة، ولكن فظاعة الجريمة، وحنو الأبوة، وهو ل الظلم جعل هذا الأب المكلوم يجازف برفع دعوى قضائية على ابن أخيه والمشتركين معه بهذه الجريمة.
ولكي يضمن حمايته من طغيان آل البرازي اتجه إلى توكيلي وتوكيل بدر علوش ورئيف الملقي، الممثلين لحزب الشباب والكتلة الوطنية، في هذه القضية التي لم يكن لها أهمية قضائية بقدر ما أسفرت عنه من نتائج سياسية هامة في فضح جرائم الإقطاعية وتعبئة الأوساط الشعبية في حماه ضدها.
ولقد أخذت هذه القضية وجهتها السياسية والاجتماعية والقضائية على نحو لم يكن محصوراً في دوائر القضاء، وإنما اتسعت فشملت اهتمام الجماهير في الأحياء الشعبية، وكانت مناسبة لفضح الإقطاع وجرائمه، وخروجه عن جميع الشرائع الأخلاقية والدينية.
كان رئيف الملقي الذي رئس الكتلة الوطنية بعد وفاة الدكتور توفيق الشيشكلي يشعر بضرورة الالتقاء مع حركة الشباب، بعد أن ظهرت في الأجواء السياسية بوادر اقتراب عودة الحياة الديمقراطية وإجراء الانتخابات النيابية، فكان توكيلنا بهذه القضية التي أصبحت شاغلاً لاهتمامات الجماهير الشعبية في المدينة مناسبة للبدء بتحقيق هذا اللقاء، وكان الملقي يدرك بأن ثراء الاقطاعيين الفاحش الذي أتاحته لهم ظروف الحرب والميرة والإتجار بالحبوب يشكل أمضى سلاح بيدهم في المعركة الانتخابية التي سيخوضون غمارها، وسيجدنها فرصة – بعد وفاة الدكتور توفيق الشيشكلي- للقضاء عليها نهائياً.
وهكذا كانت تلك الدعوى مناسبة لالتقاء سياسي واجتماعي بين حزب الشعب والكتلة الوطنية، هكذا فهمت القضية في الأوساط الشعبية، فكانت أساساً لوحدة الصف الوطني استعداداً للمعركة القادمة.
انتهت الدعوى ببراءة صالح البرازي ورفاقه، ونجا من عقوبة القضاء، ولكنه لم ينج من عقوبة السماء، فقد ذهب قتلاً هو وأبناء عمومته الآخرين بأيدي بعضهم البعض.
كان المهم في هذه القضية أنها تعرضت بجرأة لوضع المرأة في المجتمع ولما كانت تعانيه، كما تعرضت لأهمية دورها الاجتماعي والوطني والحضاري، وهو ما سنفرد له فصلاً خاصاً فيما بعد.
انظر:
انظر ايضاً:
من مذكرات أكرم الحوراني (65)- الشهبندر يعارض من منفاه ويدافع عن عروبة لواء الاسكندرون
من مذكرات أكرم الحوراني (66) – تنازلات جميل مردم .. وتراجع فرنسا عن تصديق معاهدة 1936
من مذكرات أكرم الحوراني (67) – التجربة والخطأ في الحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (68) – حملة في حماة ضد الحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (69) – لبنان والحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (70) – التجربة والخطأ
من مذكرات أكرم الحوراني (71) – إنشقاق في صفوف الكتلة الوطنية بحماه
من مذكرات أكرم الحوراني (72) – الشباب في حماه والكتلة الوطنية
من مذكرات أكرم الحوراني (73) – منهاج حزب الشباب
من مذكرات أكرم الحوراني (74) – تكوين حزب الشباب
من مذكرات أكرم الحوراني (75) – صدام مع الكتلة الوطنية.. أول مرة أدخل فيها السجن
من مذكرات أكرم الحوراني (76) – حكومة المديرين
من مذكرات أكرم الحوراني (77) – محاولة اغتيال بهيج الخطيب
من مذكرات أكرم الحوراني (78) – إغتيال الشهيد الشهبندر
من مذكرات أكرم الحوراني (79) – الحرب العالمية الثانية
من مذكرات أكرم الحوراني (80) – شعب سورية يهب لنصرة العراق
من مذكرات أكرم الحوراني (81) – فرقة من مجاهدي حماة تتوجه إلى العراق عام 1941
من مذكرات أكرم الحوراني (82) – فشل الثورة في العراق 1941
من مذكرات أكرم الحوراني (83) – حوار مع ضابط ألماني والتجمع في حلب
من مذكرات أكرم الحوراني (84) – الإنكليز في حماه وتغلغل مخابراتهم في سوريا ولبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (85) – عهد الشيخ تاج الدين الحسني
من مذكرات أكرم الحوراني (86) – أزمة اقتصادية خانقة
من مذكرات أكرم الحوراني (87) – ذكرياتي في المحاماة