من مذكرات أكرم الحوراني – فشل الثورة
بعد بضعة أيام فوجئت بأحد السوريين يأتي إلى “المقر” ويقول لي همساً:
-إلى متى أنتم باقون هنا؟ إن الجماعة قد هربوا كلهم ولم يبق سواكم. فأنصحكم بالمغادرة والهرب إلى سوريا.
فلم أصدق كلامه في البداية، ولكني لاحظت أن الجو مكفهر متأزم، ولم أعد أرى أحداً من زعماء المقر، فتألمت كثيراً من الزعماء الهاربين الذين لم يكلفوا أنفسهم إشعارنا بقرب احتلال الانكليز لبغداد. وكان هذا الحادث بالنسبة لي صدمة أليمة.
وبينما أنا مجتمع برفاقي لتدبر أمر خروجنا من العراق إذا برسول من وزارة الدفاع يأتي إلى المقر طالباً حرساً للسبعاوي، فأرسلت رفاقنا ليقوموا بهذه المهمة، وقد باتوا تلك الليلة في وزارة الدفاع يحمون السبعاوي إلى أن غادر بغداد.
وفي اليوم الثاني ألقت الشرطة العسكرية القبض علينا جميعاً، بينما كنا نلمح التعاطف والأسى على وجوه الضباط، وبعد أخذ ورد هيئت لنا سيارات شحن لنقلنا إلى الحدود السورية.
كان الانكليز قد قاموا بحملة دعائية واسعة لإساءة سمعة السوريين الموجودين في العراق، وقد حشرنا جميعاً من مجاهدين، ومن سوريين كانوا موظفين أو مقيمين مع بعض الضباط العراقيين الذين فروا خوفاً من فتك البريطانيين في عدد من سيارات الشحن على الثورة، فطردوا بعد ذلك البقية الباقية من الموظفين.
خرجنا من بغداد متوجهين إلى الموصل، ومعنا كتاب من الجيش لتزويد سيارتنا بالوقود أثناء الطريق، ولما وصلنا إلى بلدة كركوك الجميلة راجعنا المحافظ بشأن الوقود فقابلنا بالشتائم المقذعة – فقلت له: هل تعرف من تخاطب أنت؟ نحن لسنا “ثرثرية” كما تقول بل نحن مجاهدون أتينا لنشارككم في تحرير عراقنا العربي. إنني أغلقت مكتب المحاماة كما ترك رفيقي هذا وظيفة لهذا الهدف. وأشرت إلى الأستاذ نخلة كلاس الواقف بجانبي.
فقال المحافظ: من قال لكم إن العراق عربي؟ .. إن العراق وطن القوميات. وعليكم أن تحرروا بلدكم من الافرنسيين أولاً.
فقلنا له: كنا نأمل أننا عن طريق تحرير العراق يمكننا أن نحرر سورية.
فلم يقتنع بهذه الأقوال وأمر باعتقالنا جميعاً، فساقنا رجاله إلى قبو عتيق في مبنى المحافظة، ولكن ضغطاً شعبياً، أو أن امراً وجه إليه، فأمر بإطلاق سراحنا، فلم يفوت الأستاذ نخله الفرصة فوقف في الباحة وألقى أمام ذلك المحافظ وجنوده خطاباً مؤثراً ظهرت علائمه على وجوه الحاضرين.. ثم تابعنا طريقنا إلى الموصل.
في الموصل
دخلنا إلى الموصل قبيل الفجر، وكان الجوع والتعب والإنهاك في تلك السيارات اللعينة قد أخذ منا كل مأخذ، ففوجئنا إذ رأينا كل مطاعم الموصل وفنادقها مفتوحة لاستقبالنا وشعب الموصل كله ساهراً للترحيب بنا، كانت لحظة مؤثرة تهز أعمق أعماق الإنسان، إن الحفاوة والحدب والمحبة والتشجيع التي لقيناها في الموصل تفوق الوصف، وإن أعظم ما يثير اعتزاز العربي بأمته أن امرأة عربية من الموصل تبرعت بدفع كل نفقات الفنادق والطعام لهذا العدد الكبير.
كان مناخ الموصل – أم الأربيعين- وبيوتها وشوارعها يذكرنا بملامح مدينة حلب، وفيها شممنا، روائح سورية، وحين غادرناها بعد ثلاثة أيام من الحفاوة البالغة، ودعنا أهلها وداعاً لا أنساه.
عبرنا نهر دجلة في طريق عودتنا إلى سوريا، فالتقينا لأول مرة بكاظم الصلح ورفاقه وكنت في الثلاثينيات أتابع مقالاته الوطنية، الناضحة بالأسلوب الجميل، في جريدته “النداء” وكان قد خرج ورفاقه هاربين من بغداد، ولم يرافقنا طويلاً بل افترقوا عنا خوفاً من أن يلقى عليهم القبض معنا.
وعلى نهر الخابور شاهدنا النواعير فتذكرنا حماه، وما أن اجتزناه حتى أصبحنا قيد الاعتقال بحراسة قوى الأمن السورية فأخذونا إلى دير الزور، وأوقفونا في ثكنتها العسكرية حيث حشرونا، ونحن خمسمائة في قاووش واحد يبث سقفه المعدني لهيباً في ذلك الصيف القائظ. وكان أكثر ما يؤلمني حال من معنا من الطيارين العراقيين الشباب. فقد كنت أخشى أن تسلمهم السلطات إلى الإنكليز. وكان بينهم شاب يكاد يجن شوقاً لكأس من الشاي الأسود الثقيل، وفي ذلك القاووش تعرفت على جمال الأتاسي لأول مرة. وعرفت منه أنه الوحيد من جمعية نصرة العراق الطلابية الذي أتى للمشاركة بالثورة.
بقينا في “قاووشنا” نتسقط أخبار القيادات السورية والعراقية التي هربت من العراق ولاسيما العقداء الأربعة، وضباطنا الذين هربوا معهم، وقد علمنا فيما بعد أن فوزي القاوقجي عبر الحدود العراقية باتجاه حلب، فتعرض في الصحراء لغارات الطائرات الانكليزية، فجرح وأصيب بطلقات عديدة نقل على أثرها بطائرة عسكرية إلى برلين، وقتل رفيقه حمد صعب، فتبددت حملته اللاجئة إلى سوريا، وكان عثمان الحوراني من أفراد هذه الحملة.
كان في تلك الثكنة عدد من الضباط السوريين في الجيش المختلط، منهم جمال فيصل، وفيصل الأتاسي، وضباط آخرون من آل الأتاسي.
بعد أيام ساقتنا السلطة العسكرية الفرنسية إلى حلب وسجنتنا في الثكنة العسكرية قرب محطة القطار، فبتنا فيها عدة ليال، وكان الوضع أفضل مما كان عليه في ثكنة دير الزور، كما أن الرقابة أخف، فهرب رفيقانا خليف العريب وأدهم عكاش لأنهما كانا محكومين بأحكام سياسية، وبعد أيام أطلق سراحنا فعدنا إلى حماه أحراراً.
انظر:
مذكرات أكرم الحورانيانظر ايضاً:
من مذكرات أكرم الحوراني (65)- الشهبندر يعارض من منفاه ويدافع عن عروبة لواء الاسكندرون
من مذكرات أكرم الحوراني (66) – تنازلات جميل مردم .. وتراجع فرنسا عن تصديق معاهدة 1936
من مذكرات أكرم الحوراني (67) – التجربة والخطأ في الحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (68) – حملة في حماة ضد الحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (69) – لبنان والحزب السوري القومي
من مذكرات أكرم الحوراني (70) – التجربة والخطأ
من مذكرات أكرم الحوراني (71) – إنشقاق في صفوف الكتلة الوطنية بحماه
من مذكرات أكرم الحوراني (72) – الشباب في حماه والكتلة الوطنية
من مذكرات أكرم الحوراني (73) – منهاج حزب الشباب
من مذكرات أكرم الحوراني (74) – تكوين حزب الشباب
من مذكرات أكرم الحوراني (75) – صدام مع الكتلة الوطنية.. أول مرة أدخل فيها السجن
من مذكرات أكرم الحوراني (76) – حكومة المديرين
من مذكرات أكرم الحوراني (77) – محاولة اغتيال بهيج الخطيب
من مذكرات أكرم الحوراني (78) – إغتيال الشهيد الشهبندر
من مذكرات أكرم الحوراني (79) – الحرب العالمية الثانية
من مذكرات أكرم الحوراني (80) – شعب سورية يهب لنصرة العراق
من مذكرات أكرم الحوراني (81) – فرقة من مجاهدي حماة تتوجه إلى العراق عام 1941