بطاقات بحث
نضال البعث – مع البدايات الأولى لنشوء حزب البعث
نضال البعث -الجزء الأول، القطر السوري 1943- 1949 من معركة الاستقلال إلى نكبة فلسطين والانقلاب العسكري الأول (1) مع البدايات الأولى لنشوء حزب البعث
يعتبر عام 1943 نقطة تحول حاسمة لا في التاريخ السياسي للقطر السوري فحسب وإنما في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي ايضاً. فإذا كان ذلك العام نقطة بداية جديدة في الحياة السياسية لسوريا “اعادت سلطات الاحتلال الفرنسي العمل بالدستور السوري الذي وضعته جمعية تأسيسية عام 1928 وتم اجراء انتخابات نيابية لإقامة برلمان جديد وتم كذلك انتخاب رئيس للجمهورية شكري القوتلي وتشكيل حكومة وطنية” فإن ذلك العام بالذات يعتبر في الوقت نفسه نقطة تحول حاسمة في حياة الحزب لأنه فيه ظهرت “حركة البعث العربي” لأول مرة لا كحزب سياسي فقط وإنما كممثلة لايديولوجية شعاراتها الأساسية هي الوحدة والحرية والاشتراكية، هذه الشعارات التي ما تزال تمثل حتى اليوم أهداف كفاح جماهير شعبنا العربي كله.
وإذا كان التاريخ السياسي الحديث لسورية في عام 1943 قد سجل نقطة تحول حاسمة، إلا أن نقطة البداية فيه ترجع إلى ما قبل ذلك بـ 23 عاماً أي إلى عام 1920 عندما احتلت الجيوش الفرنسية دمشق وسوريا كلها بعد معركة ميسلون تموز 1920. وفي ذلك التاريخ سقطت محاولة إقامة دولة مستقلة في سوريا بعد أن أخفقت قبلها القوى الوطنية العربية في كفاحها من أجل إقامة دولة عربية واحدة مستقلة في المشرق العربي.
وهكذا، بعد أن كان التناقض الرئيسي هو التناقض بين الاحتلال العثماني والقوى الوطنية العربية، تحول هذا التناقض إلى صراع بين الاحتلال الفرنسي البريطاني والقوى الوطنية العربية، ثم تراجع أكثر عندما تحول إلى تناقضات بين كل قطر عربي محتل من جهة، وبين سلطات الاحتلال في كل قطر عربي من جهة أخرى عندما تمت تجزئة المشرق العربي إلى دويلات. لقد تحول النضال القومي العام من أجل دولة عربية واحدة إلى مجموعة من حركات النضال القطرية من أجل الاستقلال الوطني.
وعلى هذا الأساس فإن التناقض الرئيس في سوريا كان منذ عام 1920 بين السلطة الفرنسية الاستعمارية المباشرة من جهة وقوى الاستقلال الوطني من جهة أخرى.
كانت السلطة الاستعمارية تتمثل في جيوش الاحتلال وسلطة الانتداب وأعوانها من السياسيين المحليين، في حين كانت قوى الاستقلال الوطني تتمثل بصورة رئيسية في جماهير الفلاحين في الريف وجماهير أبناء المدن من عمال وحرفيين وكسبة وتجار وطلاب ومتعلمين ومثقفين. وكانت تقود هذا الكفاح الوطني زعامات اقطاعية عشائرية وطائفية.
وقد أخذ هذا التناقض أعنف أشكاله في الفترة الممتدة بين عامي 1920 – 1928 عندما تجلى بصورة ثورات مسلحة أبرزها ثورة عام 1925 التي اضطرت سلطات الاحتلال إلى إقامة نظام سياسي ذي شكل دستوري منذ عام 1928.
وقد أدى وجود دستور ورئيس للجمهورية ونظام برلماني إلى انتقال هذا التناقض من ضيغته ككفاح شعبي، بصورة انتفاضات مسلحة مركزها الارياف وقوامها جماهير الفلاحين إلى ضيغته كصراع سياسي مركزه المدن وقوامه جماهير أبنائها، وكان ذلك بداية تبشر بالانتقال من الثورات العفوية غير المنطمة إلى العمل السياسي العقائدي المنظم.
وقد تولت قيادة هذا الصراع السياسي في الثلاثينيات من الجانب الوطني مؤسستان رئيسيتان وهما الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي، في حين مثل الطرف الآخر مجموعات من السياسيين العملاء المباشرين لسلطة الاحتلال. وعلى الرغم من أن هاتين المؤسسستين كانت موحدتين في أصولهما الطبقية الممثلة للاقطاع الزراعي وكبار الملاكين العقاريين بصورة خاصة، وكذلك في أهدافها السياسية التي تتلخص في الاستقلال الوطني، فإن عصبة العمل القومي انطلقت من فكرة القومية العربية واعتبرت نفسها الوريث السياسي لحركة الاستقلال العربي التي قادها الوطنيون العرب في نهاية مرحلة الحكم العثماني وفي فترة الحرب العالمية الأولى. وكانت أقرب إلى مفهوم “الحزب المنظم” من “الكتلة الوطنية” التي كانت أقرب إلى مفهوم “التكتل السياسي” الذي يمثل مصالح طبقة معينة.
وكان أقصى ما استطاعت حركة الاستقلال الوطني تحقيقه هو معاهدة عام 1936 التي منحت سوريا حكماً ذاتياً بصيغة دولة مستقلة بعد مساومات طويلة وشاقة مع سلطة الاحتلال. غير أن هذا الاستقلال السياسي المحدود، لم يلبث ان سقط في عام 1938 بعد أن مزقته خلافات قياداته السياسية وتناحرها على السلطة، وبعد أن أثبت عجزه عن الوقوف في وجه سلطات الاحتلال وتساهله في المطالب الوطنية وعدم قدرته على الحفاظ على أرض الوطن عندما سلخ عنها لواء الاسكندرون، وأعطي لقمة سائغة لتركيا، وتمت تصفية هذه المرحلة نهائياً بقيام الحرب العالمية الثانية وعودة سوريا إلى حظيرة الحكم المباشر لسلطات الاحتلال، بعد أن بدأت المقاومة الشعبية بمختلف أشكالها تنحسر وتتراجع نتيجة اليأس من القيادات السياسية التي تخاذلت وتخلت عن المقاومة وضحت بها على مذبح مصالحها الانانية.
وفي عام 1943، أي بعد عامين تقريباً من دخول الجيوش البريطانية والفرنسية المتحالفة سوريا وتصفية قوات حكومة “فيشي” الفرنسية المتعاونة مع المحور، تم الاتفاق بين الدولتين المحتلتين على اعادة الاستقلال السياسي لسوريا بالصيغة الدستورية القديمة نفسها.
وعلى الرغم من أن الفترة بين عامي 1939 – 1943 كانت قصيرة إلا أن البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لسوريا بدأت تطرأ عليها تغييرات جذرية. ذلك ان مرحلة الحرب العالمية الثانية، والسنوات الخمس التي أعقبتها كانت تعتبر فترة ازدهار حقيقي بالنسبة إلى الاقطاع الزراعي وبداية نشوء البرجوازية التجارية وصعودها. ففي الوقت الذي كانت البلاد فيه ترزح تحت وطأة احتلال جيوش الحلفاء، كانت جماهير الفلاحين في الأرياف تكدح في أراضي كبار الملاكين العقاريين، وكانت الطبقة الوسطى والفقيرة في المدن تعاني الفاقة وما يشبه المجاعة أحيانا، كان الاقطاعيون وكبار الملاك العقاريين يكدسون مئات الملايين من بيع المحاصيل الزراعية لقوات الحلفاء لتموين جيوشها “الميرة” بينما تحرم الجماهير الواسعة خاصة في المدن من خبزها. وكان التجار بدورهم يكدسون الملايين بسبب الاحتكار والتعامل في السوق السوداء والمتاجرة مع جيوش الحلفاء.
وهكذا ظهر تحالف الاقطاع الثري مع البرجوزاية التجارية الناشئة والصاعدة وعلى الرغم من ان هذا التحالف لم يكن في السلطة رسمياً، لأن السلطة كانت بيد الحكم المباشر لجيوش الاحتلال، الا انه استطاع أن يكدس بانصرافه إلى الأعمال الاقتصادية ثروات أخذ يوظفها بصورة رساميل في الاستثمارات الزراعية الصناعات التحويلية والاستهلاكية وغيرها وبخاصة صناعة النسيج. وقد رافق ثراء الاقطاع وتحالفه مع البرجوازية التجارية الناشئة اتساع الطبقة الوسطى في المدن خاصة وازدياد نسبة المتعلمين من أبنائها وتكوين فئات مثقفة ذات أصول فقيرة. وعندما أعادت سلطات الاحتلال الفرنسية البريطانية عام 1941 الاعتراف باستقلال سوريا وجرت انتخابات عامة “عام 1943” لإقامة مجلس نيابي وتم انتخاب رئيس الجمهورية “شكري القوتلي” كان تحالف الاقطاع والبرجوازية التجارية ممثلاً في “الكتلة الوطنية” جاهزاً لممارسة النصيب الذي خصصته له سلطات الاحتلال من السلطة.