ان أفضل الحكايا وأروع الأحاديث تلك التي يهتز لها الوجدان الانساني ، حيثما وُجد صاحبه ، وفي أي زمان عاش ثم قضى. فقد علمت أن رجلا من مدينة حلب ينادونه الناس ، بـ “أبي علي” ، ذو خلق حميد ، عمل سائقا للمركز الثقافي بمدينة حلب ، وأحبه الموظفون على اختلاف طبائعهم ، وتدرج وظائفهم في المركز الثقافي.
ولقد توطدت العلاقة مع رئيس المركز بشكل متقدم ، حيث طلب منه رئيس المركز الحضور مبكرا قبل الدوام قدر الامكان للقيام بالتعلم ومحو أميته من قبل رئيس المركز وكان ذلك. ومضت الأيام ، أيام الخير على السائق وعلى رئيسه.
ونال السائق مع دأبه على متابعة الدراسة بمعونة رئيس المركز اشهادات تباعا .. الابتدائية ثم المتوسطة فالثانوية ، ثم توجها بشهادة كلية الحقوق الجامعية. أليس ذلك يستحق منا النظر والتمحيص ومعرفة الانسان صاحب الفضل (والفضل دائما لله) في هذه الحكاية الحقيقية.
لقد كان رئيس المراكز الثقافية في محافظة حلب صاحب الفضل في حكاية سائق المركز الثقافي الرئيسي في مدينة حلب “أبو علي” هو أستاذنا الكبير ( هاشم صيادي – أبو منقذ ) رحمه الله وطيب ثراه.
فمن هو هذا الرجل الكبير المربي العظيم الذي يعرفه تلاميذه في حماة ودير الزور ، يعرفه التلاميذ مربيا حازما ملما بعلوم الرياضيات واللغة العربية ، ويعرفه القاصي والداني وطنيا عروبيا مسلما مؤمنا ميالا للحق دائما .. فمن هو هاشم صيادي ؟
الأستاذ هاشم صيادي من مواليد بلدة “شيزر” التابعة لحماة سنة 1912م ، نشأ وترعرع في شيزر ثم درس في حماة، وبعد نيله الشهادة الابتدائية سافر الى دمشق وانتسب الى مدرسة “عنبر” ونال شهادتها وأصبح معلما، ثم درّس في محافظة دير الزور قبل أن يعود الى حماة.
درّس في مدرسة ( دار العلم والتربية ) ، وعام 1945 في مدرسة التجهيز الأولى ( ابن رشد ) ، و مُديراً لمدرسة التجهيز الثانية ( أبي الفداء ) ، ثم مديراً لمدرسة ( ابن رشد / مقرها اليوم مدرسة السيدة عائشة ) عام 1965 ، ثم شغل منصب مدير المركز الثقافي في حماة ، ثم مفتشاً في وزارة التربية.
ولقد مارس نشاطه السياسي مع أقرانه في عهد الانتداب كوطني مميز ، كانت تفوح لنا رائحة ذلك في تصرفاته معنا أيام الاستقلال ، فوعينا عظيم ما قدمه وأقرانه من تضحيات هي الأصدق والأجمل. وكان في حياته رحمه الله يحسن اختيار الأصدقاء ، وخاصة الأكبر منه سنا ، ومن الذين سبقوه في المعرفة لشؤؤن الدنيا.
وهكذا كانت معرفته الجميلة للشيخ الصالح والشاعر المبدع الشيخ طاهر النعسان ، وأخوه سماحة مفتي حماة ورائد نهضتها الشيخ محمد سعيد النعسان.
تلك المعرفة انتهت بطلب الأستاذ هاشم يد ابنة الشيخ طاهر المرحومة باذن الله ( سلمى طاهر النعسان ) التي تصغره بست سنوات ، فهي من مواليد 1918 ، وكانت من مدرسات حماة المعدودات والمشهود لهن بالتفوق والصلاح ، ولقد توفاها الله عام 1991 ، أي قبل وفاة زوجها أبا منقذ بعشر سنوات. فلقد فارق الأستاذ هاشم الحياة يوم 29 اّذار 2001.
أعود للعائلة الكريمة الأستاذ هاشم وزوجته العظيمة سلمى طاهر النعسان فقد رزقهما الله أربع بنات وثلاثة أولاد : فالأولاد هم الكبير اسمه “منقذ” ذهب ضحية حوادث حماة 1964 ، وقضى نحبه في جامع “السلطان” وكان في الصف الحادي عشر ، وكان له وقعا هائلا جدا لدى أهله والناس جميعا.
والثاني اسمه “فراس” تعلم وسافر للعمل في المملكة العربية السعودية ، ونجح في عمله وتزوج وخلف ولدا أسما هاشما ، وللأسف قضى نحبه ائر حادث أليم وعمر هاشم ابنه لم يتجاوز الثمانية أشهر ، والاّن أصبح الحفيد هاشم صيادي رجلا صالحا تزوج من روسية أصبحت مثله صالحة تماما.
أما الابن الثالث فهو “الدكتور حسان” الاختصاصي في التشريح المرضي وهو من الناجحين جدا في حياته العلمية ويعيش في “كندا” ولم يتزوج حتى الاّن.
أما البنات فهن على التوالي : الاّنسة “نجوى” التي تعلمت ورعت أخواتها ، وكانت الأم الثانية في البيت ، ولقد توفاها الله في سنة 2016. والثانية اسمها “هزار” زوجها المرحوم العميد “طاهر الرواس” ولهما ثلاثة أولاد.
والثالثة اسمها “تغريد” حاصلة على شهادة كلية الاّداب قسم اللغة العربية ، وكان فضل أبيها عليها عظيم ، حيث قالت عن فترة دراستها بأن المرحوم هاشم والدها حفظ المنهاج أكثر منها عندما ساعدها في دراستة ذلك المنهاج. وزوجها أحد أقرباؤها وهو السيد “عبد الرحمن صيادي”.
أما الابنة الصغرى فهي السيدة “ندى صيادي” دكتورة في هندسة العمارة ، وزوجها الخبير في الأرصاد الجوية السيد “نزار شمسي” ويعيشان في فرنسا.
بعد أن ذكرت بعض المعلومات التي استطعت جمعها وبصعوبة كبيرة عن اسرة المرحوم الأستاذ هاشم صيادي ، لا بد لي أن أعرج على بعض ما عشته من حوادث معه وبشكل مختصر جدا:
كنت في الصف السابع في ثانوية أبي الفداء عام 1957 ، وكانت تلك الفترة في قمة النشاط الوطني والسياسي ودعوات الوحدة مع مصر تشتد وتتعالى ، وحدث أن أذاعت الإذاعات أنباء محزنة عن ضحايا من المدنيين الجزائريين وكانت ثورتهم على أشدها.
فتداعى الطلبة الى الاضراب ، وبدأت الهمهمات ثم الصفير فالهتافات الخافتة أولا ، ثم تبعها الأعلى منها أصواتا ، وكان في الفناء المسقوف من البناء طاولة الكرة الرياضية ، فصعد عليها بعض الطلبة وبدؤوا بالتحريض على الاضراب.
وماهي الا دقائق معدودات حتى أقبل المدير الأستاذ هاشم ، وبسرعة عجيبة أنزل الطلاب من على الطاولة بيديه ، وبدأ الخطابة على مبدأ “لا يفيدكم الا الدراسة” ، ونحن مع الجزائر وأهل الجزائر ، ونفيدهم أكثر بمتابعة العلم وليس بالتعطيل.
وحادثة أخرى كبيرة كانت في يوم 12 اّذار 1963 حيث وقع شجارا عنيفا بين الطلاب على اثر اختلاف الرأي بانقلاب 8 اّذار ، ولكن الأوراق اختلفت بين الطلاب ، واشتد العراك ، وكانت أدوات الضرب المسعملة غير الأيدي هي “قشاطات” بذّات الفتوة والجنازير المشتراة من سوق الحدادين.
ولقد بذل المدير هاشم صيادي الجهد العظيم في ايقاف الشجار وعاونه قي ذلك وبشكل حاسم الشيخ محمد الحامد والأساتذة الكرام توفيق كليب ( لغة عربية ) أدهم باشوري ( لغة انكليزية ) سليمان الأظن ( علوم ) وغيرهم.
ومع ذلك فقد دخلت الشرطة العسكرية المدرسة بالتنسيق مع مديرية التربية ، وحسب ما حدثني الأستاذ هاشم بأنه لم يكن موافقا على ذلك. المهم اصطف بعض أفراد الشرطة العسكرية قي الممر الجنوبي على شكل صفين وأمروا الطلاب بالمرور بين الصفين ، وكان كل فرد من الشركة العسكرية يحمل العصى المعروفة لدى الجميع ، وبدأ الطلاب يتراكضون ليمروا بسرعة لتفادي بعض الضربات.
ولما جاء دوري تلقي بعض الضربات ، ولكن فجأة سحبتني يد أحد أفراد الشرطة العسكرية ، ووضعني خلفه ، ودفعني لأمر من ورائهم ، وهكذا كان هذا الرجل الذي أنقذني من بعض الضربات ثم الاعتقال هو ابن حارتي جورة حوا اسمه “محمود دبيس” المشهور “بأبي عبود” ذو الشوارب المدللة الحمراء.
أما الحادثة الثالثة مع أستاذي هاشم صيادي وهي المحببة الى قلبي ، والتي بسببها أرتجف وكياني كله عند عبور ذكراها على مخيلتي .. كنت جالسا في مكتبي أثناء خدمتي في طرطوس أرتشف قهوتي الصباحية مع سيجارتي التي عافاني منها الله والى الأبد باذن الله ، رنّ جرس الهاتف لدي ، وكان على الخط النقدم في الشرطة المدنية المرحوم عبد الرحمن عبد العال أبو مازن ، وبعد التأهيل والسلام سارع بالقول : أن مديرنا العزيز هاشم صيادي هو وعائلته في طرطوس ويسأل عنك.
أغلقت الهاتف بسرعة واستأذنت قائدي ، وخرجت من الثكنة بسرعة فائقة وملفتة للنظر. كان اللقاء دراميا بكل معنى الكلمة ، حتى أن السيدة “سلمى أم منقذ” أخذها العجب من حرارة اللقاء، وصدفة كان الوقت في شهر تموز ، وكان الزحام على شاطيء البحر يكاد لا يصدق ، فشلنا في الحصول على شاليه ان كان خاصا أو عاما من أجل استاذنا ، وبالرغم من امكانيتنا في ذلك الزمان ، بالاضافة الى وجود قائد الشرطة في ذلك الوقت العميد برهان ملكي رحمه الله.
المهم كان لدي خيمة جديدة كبيرة اشتريتها من الاتحاد السوفييتي السابق عندما كنت في بعثة دراسية ، فنصبناها له في مكان يتوضع الى جانب الخيمة الصيفية لقيادة شرطة طرطوس ، حيث قضى فيها مديرنا حوالي الشهر ، عشت معه أجمل الأيام.
وكنت كثير السؤال له حول تاريخ بلدنا وعن رجال السياسة ، وأشهد أن أجوبته كانت مثالا يحتذى للوصول الى التسامح وقبول الاختلاف ، لأن خلفية أستاذنا في حياته الأخيرة وحدوية صادقة بعيدة عن القوى الخفية التي تدمر البلاد وأهلها.
ولقد دققت معه فترة الانفصال ، وما جرى في تلك الفترة ، وناقشت معه تفاصيل الانتخابات في حماة بين القائمتين : القائمة المؤتلفة ، وتضم بعض الشخصيات الممثلة للوحدويين وللأخوان المسلمين وبعض المستقلين.
والقائمة الثانية كانت بزعامة المرحوم “أكرم الحوراني” ممثلة لحزب البعث العربي الاشتراكي، و ذلك قبل الانقسامات الحزبية بينهم. وكان رأيه النهائي الحاسم أنه مع الوحدة قولا وفعلا ، مع العلن أن الأستاذ هاشم رشح نفسه للانتخابات النيالبية التي جرت أيام الانفصال 1961-1962.
وكنا نحن الطلاب بمختلف انتمائاتنا نزوره في مقر دعايته الانتخابية الكائنة في المبنى الذي كان يشغله المحامي “أحمد قربولاد” بعد أن كان فندقا قرب سينما “الأمير”.
ولجمال الزمان وعلاقاته الاجتماعية ، كان جميع زواره صادقين وكثيرا من الأصواب حصل عليها رغما عن الحزبية والحزبيين. ولكنه لم ينجح ، ولا يمكن شرح ذلك لكونه خارج عن نطاق البحث المقصود.
ولقد استضفته في بيتي عدة مرات وفي كل مرة أشعر بأن دمعه يسيل من عينيه ، ويقول لما أسأله عن ذلك يجيبني بأن حسن الوفاء يبكيه بل يبكي الصخر. وكا يحاول التهرب مني لما أدعوه الى البيت ، وشعرت بأنه يبذل الجهد في ذلك حتى لا أتكلف من المال شيئا.
ومضت الأيام وسافر أستاذنا بالسلامة الى حلب، وزرته في حلب عدة مرات واستضافني وعرفته على أختي التي كانت تدرس في جامعة حلب بكلية هندسة العمارة، وأوصيته بها خيرا ، فرعاها خير رعاية وهي تشهد بذلك. وفي احدى المرات هاتفني خالي “معد أبوطوق” بأن الأستاذ هاشم في حماة ، فغادرت طرطوس من فوري الى حماة ، واجتمعت بأستاذي عدة مرات.
وفي احداها قال لي : ألا تحب زيارة بعضا من أساتذتك ، فأجبته ياحبذا ، فركب معي في سيارتي ووجّهني الى محلة المحطة ، وقرع الباب ، وكان الباب يخص منزل أستاذي في اللغة العربية “توفيق كليب” ، فلما رآنا ذُهل من الرؤيا وفرح كثيرا حتى سال الدمع وكان غاليا جدا.
وبعد ذلك قادني وأنا أقود السيارة الى منزل قريب الآن من مديرية التربية وقرع البا ففتح لنا رجلا مهيبا طاعنا في السن ، هو الشاعر الكبير “عمر يحيى الفرجي” ، وأنا لا أعرفه من قبل وكان هذا اللقاء يتيما لأني للأسف لم أجتمع به بعد ذلك.
دخلنا البيت فأذهلني ما رأيته من خزائن متعددة لم أستطع احصاؤها ، وتنتظم علية آلاف الكتب قرأت بعض عناوينها بسرع ، فأدركت أنها تحوي عديد كتب الأدب والفلسفة والتاريخ والموسوعات المخلفة. ولقد لاحظ الأستاذ الشاعر عمر يحيى ذهولي في مكتبته ، فسأل عن ذلك ، فأجابه المرحوم هاشم بأني من هواة المطالعة من صغري.
فأدخلنا غرفة الضيوف وحيطانها الأربعة هي عبارة عن رفوف مليئة بالكتب ، فوقفت أقرأ العناوين. وغاب عنا مضيفنا بعضا من الوقت ، ثم أتانا حاملا معه علبة متوسطة الحجم فيها بعض الكتب هدية لي ، فشكرته ، فكانت أعظم هدية في العمر. وبقيت علاقتي معه متينة تتعاظم يوما بعد يوم ، حتى جاء موعد اغترابي الطويل.
وبعد أن عدت من الغربة المضحكة المبكية سالما مُعافى ، ووصلت الى اقتناء التقنية الحديثة ، وبدأت أكتب بعض الخواطر على صفحات التواصل الاجتماعي ، وتذكرت بعض تفاصيل الماضي ومن ذلك ما كان يؤمن به استاذي الفاضل هاشم صيادي من تسامح اجتماعي ، يستوعب به أفكار الاّخرين ويحسن التعامل معها وخاصة عندما يكون في موقع المسؤولية واتخاذ القرار.
ولقد فهمت منه بشكل مبكر أن التسامح اذا اتصف به الانسان فانه يفتح له الأبواب بسعة كبيرة من أجل فهم حقوق الاّخرين ، وهو الذي يمنح المرء اذا تحلى به مكتسبات ترتقي به الى الاقتراب من مصاف التحضر ، بل ربما يصل به الى التحضر قولا وفعلا.
وأتم حديثي بأني عندا نشرت على صفحتي بعض المقالات عن رجال حماة وقادتها ، ومن أستاذي الكبير هاشم صيادي قرأها بعض أولاده أو بناته ، فشكروني على ما فعلت وهذا أحسبه واجب علي وعلى أمثالي من تلامذته.
ولقد أفرحني فعل احدى بناته العفيفة الطاهرة السيدة تغريد صيادي ، حيث كلفت أحد أقربائها القاطن في حلب بمهاتفتي ونقله لي بأن ورثة الأستاذ هاشم صيادي قرروا اهدائي بعضا من كتبه الخاصة.
وبعد عدة أيام تلقيت عن طريق الشركة الأهلية عشرة مجلدات تخص المؤلفين لتلك المتب وهم : أحمد أمين – محمد كرد علي – أرنولد توينبي .. وكانت فرحتي عظيمة لا يستطيع أحدا تصورها .. أريتم معي تربية الأستاذ هاشم صيادي رحمه الله وطيب ثراه.
اقرأ:
خالد محمد جزماتي : مـعـركـة مـيسـلـون.. فيصل الأول وفوزي القاوقجي (5)
خالد محمد جزماتي: مـعـركـة مـيسـلـون.. خسائرالطرفين (4)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (3)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (2)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (1)
خالد محمد جزماتي: تأسيس الدولة العربية في دمشق 1918- 1920
الدكتور توفيق الشيشكلي .. زعيم حماة و رئيس الكتلة الوطنية
أحمد سامي السراج .. أعلام وشخصيات من حماة
المحامي رئيف الملقي .. أعلام وشخصيات من حماة
عبد الرحمن آغا الشيشكلي وأبناؤه الثلاثة