ان الصفة المميزة للبعث العربي هي انقلابيته، اذ قد توجد احزاب تهدف الى تحقيق بعض مبادئ البعث العربي او كلها ولا تكون انقلابية لانها لا تكون صادقة في تبنيها تلك المبادئ ومحاولتها تحقيقها. فالبعث العربي، لا يفترق عن الاحزاب الرجعية فحسب، تلك الاحزاب التي تقاوم عن وعي وتصميم الدولة العربية الموحدة الاشتراكية التقدمية بل يفترق ايضا عن الاحزاب التقدمية الزائفة التي تدعي ان بامكانها تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، او بعضا من هذه الاهداف عن غير طريق الانقلاب. فالانقلاب في البعث العربي ليس هو الطريق الصحيحة لتحقيق مبادئه فحسب بل هو ايضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ واخلاص معتنقيها.
وكما ان الانقلابية تفرض نوعا معينا من العمل في الوسط الخارجي السياسي والاجتماعي فهي تفرض كذلك نوعا معينا من التنظيم والسلوك في داخل الحزب. فالحزب الذي ينبري لمقاومة الاحزاب الرجعية والاحزاب التقدمية الزائفة، لا يستطيع ان يؤدي مهمته الا باتباع اسلوب صارم شديد يضمن له وحدة الاتجاه وتماسك العمل وقوته. ولقد ادت حركة البعث العربي للقضية العربية حتى الآن خدمتين كبيرتين، الاولى توضيح الاهداف العربية الصحيحة وما بينها من ترابط ووحدة، والثانية توضيح الطريق الصحيحة التي تضمن تحقيق هذه الاهداف. وقد امتلأ الجو العربي بهذه الافكار النظرية والعملية التي نشرها البعث العربي، ولكن بقيت المهمة الثالثة والاكثر خطورة من سابقتيها وهي خلق الاداة الفعالة الصادقة الملائمة لحمل الاهداف العربية والسير بها في طريق الانقلاب. ويمكن القول بان عمل البعث العربي كان اكثره حتى الآن مقتصرا على التوجيه، اي على تهيئة الجو الخارجي والاستعداد الفكري والنفسي لتقبل الفكرة. ولكن دور العمل الخاص بالبعث العربي كحركة منظمة تضم افرادا مؤمنين منسجمين ما زال ينتظر التنفيذ.
ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم، وان انضمام الافراد الى حزب البعث العربي لا يعني خروجهم من الواقع الفاسد وتهيؤهم لمحاربته والظفر عليه الا اذا تجسدت الروح الإنقلابية في فكرهم وسلوكهم. فاذا لم يتحقق هذا الشرط الاساسي بقي انفصالهم عن الوسط الخارجي شكليا وانتماؤهم الى الحركة الانقلابية سلبياً، اذ لا قيمة لمبادئ يعتنقونها ولا يتحملون تبعاتها ومنطقها العملي الدقيق. وليس البعث العربي مدرسة فكرية حتى يكتفي باعلان حقيقة آمن بها، وانما هو حركة رسالتها النضال في سبيل ظفر هذه الحقيقة.
ان التنظيم الانقلابي هو الذي يضمن تحقيق هذا الانفصال الحاسم بين الواقع الفاسد ونفسيته المنفعلة واخلاقه النفعية وعقليته الرجعية، وبين حركة الانقلاب اي الجيل العربي الجديد المتحرر من كل هذه الامراض. ومهمة هذا التنظيم الاساسية هي التوفيق والتوحيد بين غايتين تبدوان في الظاهر مختلفتين متناقضتين، خلق الفرد العربي الذي هو اساس الجيل الجديد، الفرد الواعي المسؤول المؤمن، ثم جعل هذا الفرد اداة فعالة صادقة في الحركة التي ستغير تاريخ امته. وكما ان كل اهمال لإيقاظ الوعي والمسؤولية الاخلاقية والإيمان الروحي في نفس هذا الفرد ينتقص من انتمائه للحركة الانقلابية وانسجامه معها، فكذلك كل تهاون في ضبط هذا الفرد في منطق القدر التاريخي الذي يرتب عليه ان يكون اداة منفذة لهذه الحركة يجعل منه عنصر عرقلة وهدم وتخريب. هذا التوفيق بين الغايتين هو الذي يجعل الفرد العربي عضوا بعثيا.
الحركة الانقلابية مسؤولة عن تهيئة ادوات صادقة للانقلاب، اي عن انسجام أعضائها مع نظرتها ومبادئها، وبهذا المعنى نقول ان لا فرق بين الغاية والوسيلة وان الوسيلة جزء متصل بالغاية نابع منها، وانها ليست مجرد طريق تختاره للوصول الى الغاية بل اشعاع من الغاية يعين لنا الطريق الموصل اليها. والحركة مسؤولة بالدرجة نفسها عن نجاحها في اداء مهمتها، اي عن ضرورة تماسكها ووحدتها واطراد نموها واتساعها، والتنظيم المطلوب هو الذي يضمن للحركة وحدتها واتساعها مع بقاء العقلية والاخلاق والروح الانقلابية مسيطرة عليها.
للحركة الإنقلابية كما ذكرنا نوعان من الأعداء ، العدو السافر وهو كل الفئات والاحزاب الرجعية (والرجعية تشمل الرجعية السياسية والفكرية والاقتصادية) والعدو المقنع وهو الاحزاب والفئات القومية التقدمية الزائفة، لذلك كان عليها واجبان : المحافظة على اتجاهها الفكري، والمحافظة على اتجاهها العملي. فكل تساهل او انحراف في المبادئ يوقعها في شراك الرجعية، كما ان كل تساهل او انحراف في اسلوب العمل يهددها بالتجزئة والتناثر. فالتنظيم المطلوب هو الذي يقيها هذين الخطرين فيضمن ثبات الفكرة ووحدة الحركة.
ان التنظيم الملائم للحركة الانقلابية هو الذي يستمد من تعريفها، فهي حركة تاريخية فاصلة يتوقف على نجاحها مصير ملايين العرب وبقاء الامة العربية. ان الحركة الانقلابية لاتزال في بدء تكوينها واولى مراحلها، اي انها نواة صغيرة جدا في كيان الامة الكبير، ومع ذلك فهي مسؤولة عن هذا الكيان كله. لذلك فهي تنظم سيرها لا بالنسبة الى واقعها الحاضر بل بالنسبة الى هدفها البعيد النهائي، وهذا هو معنى مثاليتها. ومثالية البعث العربي ليست من قبيل التصوف الروحي او التحرج الاخلاقي او الفكري النظري، وانما في تقدير المسؤولية القومية التي تجعل كل خطوة من خطى المعركة ذات اثر بعيد في مصير الامة كلها.
حمص، 23 شباط 1950
اقرأ:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة