مقالات
بيت فارحي.. ثاني أكبر قصور دمشق اليهوديّة
يهود دمشق في العهد العثماني وقصّة بيت فارحي
قدّر عدد يهود دمشق عام 1548 – 1549 بألفين إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة نسمة توزّعوا على 503 خانة (أي سكّان البيت الواحد أو العائلة بمفهومها الواسع) وشكّلوا بذلك نسبة ٥-٦٪ من إجمالي سكّان دمشق. ارتفع الرقم إلى خمسة آلاف عام 1840 (أقلّ من حلب التي حضنت وقتها ستّة آلاف يهودي) وقارب التسعة آلاف عام 1859 (مقابل 22000 مسيحي) ليهبط إلى 6265 حسب إحصاء 1892- 1893.
نطق جميع يهود دمشق عمليّاً بالعربيّة كلغتهم الأمّ (تخلّى السفارديم عن لغة Ladino اليهوديّة-الإسبانيّة) وإن درسوا العبريّة للتعلّم والعبادة. تعايش أبناء الطائفة مع جيرانهم وشاركوهم في ثقافتهم وموسيقاهم ومآكلهم.
ذكر آل فارحي للمرّة الأولى في سجلّات دمشق في أواخر القرن التاسع عشر وأظهرت وثائق المحاكم أنّهم نشطوا في تجارة العقارات خصوصاً في حارة أو محلّة اليهود التي شاركهم في سكناها أبناء بقيّة الطوائف. مارس الفارحيّون الأعمال المصرفيّة (مزيد عن علاقة حاييم مع أحمد باشا الجزّار لاحقاً) وقاموا بشراء عقارات في الحيّ اليهودي بعد زلزال ١٧٥٩ دفعوا في بعضها مبالغ طائلة بمقاييس ذلك العصر وإن تعذّر علينا اليوم تحديد هذه الأبنية بدقّة كافية.
باشر شاؤول (شحادة) في بناء بيت فارحي بعد أن ابتاع عدداً من البيوت ليجمع أرضها في داره الجديدة التي أنجزت عمليّاً مع حلول عام ١٨٠٥ للميلاد عندما زار البيت الرحّالة الألماني Otto von Richter ووصف صحنه البرّاني. استقبل يوسف فارحي (ابن شحادة وأخو حاييم-المعلّم) الصحفي والرحّالة البريطاني James Silk Buckingham في البيت عام 1816 وأخبره أنّ بنائه استغرق خمسة وعشرين عاماً. سكن المنزل العديد من أفراد الأسرة وهناك ذكر لثلاثة من أبناء شاؤول (حاييم ورافائيل ويوسف) أقاموا فيه.
أقدم صور بيت فارحي
لا مبالغة في القول أنّ سوريّا غنيّة بالآثار بشكل استثنائي منها ما أخرج إلى النور ومنها ما زال حبيس التراب. هذه الآثار ثروة للبلاد ومصدر فخر لها ما في ذلك من ريب ولكنّها بنفس الوقت كانت ولا زالت تواجه المسؤول أو المسؤولين بتحدّيات هائلة: كيف يمكن الحفاظ على كلّ هذه الكنوز؟ ترميم جميعها يتطلّب حجماً من الإنفاق لا قبل لسوريّا به كبلد محدود الإمكانيّات ويستلزم خبرات عزيزة المنال وباهظة الكلفة. أيّ الآثار جدير بالمحافظة عليه وصيانته وأيّ منها ثانويّ الأهميّة أو ميؤوس منه وبالتالي لا بأس بتركه أو حتّى بهدمه واستثمار أنقاضه والأرض التي يشغلها؟ خيارات مؤلمة وشديدة الصعوبة (اللهمّ إلّا بالنسبة لأشباه البشر من داعش وشركاهم).
إذاً يمكن أن نتفهّم على مضض مصير بعض الأوابد الدارسة ومع ذلك تجدر الإشارة إلى ناحية شديدة الأهميّة: إذا كان لا بدّ من إزالة آبدة ما فأضعف الإيمان أن تقوم الجهات المعنيّة بدراستها وتصويرها وتوثيقها قبل هدمها (كما فعل Jean Sauvaget مثلاً في حالة تربة صفوة الملك قبل ثمانين عاماً ونيّف). هناك أكثر من مثال على تقصير يصعب تبريره في هذا المجال مع شديد الأسف.
نأتي إلى مثال بيت فارحي الذي حظي -ولو متأخّراً- بنصيبه من العناية. بقي هذا القصر الشامي قيد النسيان على مدى أجيال ولم يترك لنا القرن التاسع عشر إلّا لوحتيّ Leighton عام ١٨٧٣ أمّا فيما يخصّ القرن العشرين فهناك غياب كامل للصور الضوئيّة (على الأقلّ حسب معلوماتنا اليوم) إلى أن التقط الدكتور ناصر ربّاط عدداً منها عام ١٩٨٤. أخذ المصوّر الفنّان الراحل مروان مسلماني صوراً لهذا البيت (لا أعرف تاريخها بالضبط وأعتقد أنّها لاحقة لصور ربّاط) بعد أن دخل ضمن قائمة المباني المسجّلة كتراث عالمي من قبل UNESCO عام ١٩٧٩.
الصورة لرواق البرّاني (لوحة Leighton الشهيرة) .
بيت فارحي.. اللوحة المفقودة
من المدهش أنّنا لا نملك صوراً فوتوغرافيّة تاريخيّة عن بيت حاييم فارحي-المعلّم (ثاني أكبر قصور دمشق اليهوديّة بعد مكتب عنبر وأقدم بحوالي قرن من الزمن من هذا الأخير) بينما لدينا كمّ لا بأس به من اللقطات لبيوت أصغر منه -على سبيل المثال بيت لزبونا وبيت نيادو اسطمبولي- تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
لحسن الحظّ ترك لنا الفنّان Frederic Leighton لوحته المشهورة عن “قطف الكبّاد” Gathering Citrons العائدة لعام ١٨٧٣ حيث نرى على يمين الناظر الرواق المعمّد الذي يتقدّم الإيوان الغربي لصحن البرّاني.
هناك لوحة ثانية لنفس الفنّان ومن نفس التاريخ ولكنّها مجهولة من الغالبيّة العظمى من الهواة والأخصّائييّن على حدّ سواء ولا نعرفها إلّا من خلال صورة لها بالأبيض والأسود في كتاب للأديب Ernst Rhys عن أعمال الفنّان Leighton بعنوان “بحرة في صحن في دمشق” Fountain in Court at Damascus. بمقارنة هذه اللوحة مع صور البيت الحديثة (اعتباراً من ثمانينات القرن العشرين) استنتجت الدكتورة Macaulay-Lewis أنّها أيضاً لصحن البرّاني مأخوذة من الغرب إلى الشرق أي أنّها تشكّل زاوية قائمة مع رائعة “قطاف الكبّاد” الآنفة الذكر.
إذاً في حوزتنا لوحتان تاريخيّتان لبيت المعلّم تلاهما صمت تامّ تجاوز المائة عام قبل أن يدخل هذا الكنز عصر التصوير الضوئي. أن تأتي متأخّراً خير من ألّا تأتي أبداً.
اكتشاف بيت فارحي أواخر القرن العشرين
ترك لنا المصوّر الفرنسي الشهير Félix Bonfils عدداً كبيراً من الصور فيها كمّ لا بأس به عن البيوت الشاميّة المسيحيّة واليهوديّة ولكنّها مع الأسف – أو على الأقلّ ما وصلنا منها – تستثني بيت فارحي الذي لا نملك له ألّا لوحتين للفنّان Frederic Leighton (١٨٣٠-١٨٩٦) تعود أشهرهما لعام ١٨٧٣ ليتلوهما سكوت مطبق حتّى عام ١٩٨٤ (!!!!) عندما أخذ المهتمّون من الأخصّائييّن في تصويره بدأً من ناصر الربّاط ونهاية بالألماني Stefan Weber الذي التقط مجموعة كبيرة بين ١٩٩٧ و ٢٠٠٦ (أي معظمها قبل ترميم البيت الذي بدأ عام ٢٠٠٤).
فارحي أسرة شاميّة عريقة (مزيد من التفاصيل عنها وعن “المعلّم” لاحقاً) من اليهود السفارديم (أي ذوي الأصول الأندلسيّة) بقي حفنة من أفرادها في دمشق حتّى مطلع القرن الحادي والعشرين أمّا عن البيت فقد شغلته عدّة أسر من اللاجئين وغيرهم في سبعينات القرن العشرين ليصبح بحكم العشوائيّات وصادرت الحكومة قسماً منه ليمسي نسيّاً منسيّاً أو يكاد.
تغيّر الوضع مع زيادة الاهتمام بدمشق القديمة اعتباراً من تسعينات القرن الماضي واشترى حكم ركبي (مهندس عمارة من مواليد سوريا يعيش في باريس) البيت بهدف تحويله إلى فندق. جدّد ركبي البيت جزئيّاً ثمّ باعه عام 2010لرجل الأعمال السوري المقيم في لندن أيمن أصفري الذي تابع الترميم حتّى اندلاع المأساة السوريّة في 2011. التمست عائلة أصفري من الدكتورة Elizabeth Macaulay-Lewis أن تشرف على إعداد كتاب عن تاريخ البيت ومالكيه هدفه بالدرجة الأولى تعريفه لزبائن الفندق قيد البناء. تطوّرت هذه الفكرة إلى دراسة شاملة رأت النور في مجلّد أنيق صدر عام 2018.
توزيع بيت فارحي
بني البيت حول صحنين رئيسين: الأوّل والأهمّ هو صحن البرّاني (خلافاُ لقصر العظم وغيره حيث يحتلّ الجوّاني مكان الصدارة أبّهةً واتّساعاً) الواقع في الشرق. يقع صحن الجوّاني غرب البيت وهناك صحن للخدمات (مطبخ ومراحيض) في الشمال. لوّنت الصحون الثلاث بالأخضر على المجسّم الملحق وهناك صحنان إضافيّان صغيران لا يظهران عليه أحدهما امتداد لدهليز المدخل الرئيس في الجنوب والثاني يتوسّط الجوّاني والبرّاني من الشمال.
القاعات ممثّلة باللون الأزرق وأهمّها قاعة البرّاني الشماليّة التي تأخذ شكل T ويعلوا بابها نقش كتابيّ بالعبريّة. تواجد في داخلها كتابات إضافيّة إبالعبريّة والآراميّة اندثرت مع الأسف. هناك قاعة إضافيّة بطزرين شرق البرّاني لربّما كانت مكتبةً أو كنيساً أمّا الجوّاني فقاعته إلى الشمال. للبيت عديد من المربّعات والمربّع غرفة متعدّدة الاستعمالات أصغر من القاعة وأقلّ بذخاً تتواجد على جانبيّ الأواوين.
لّونت الأواوين بالأحمر-البرتقالي وكما نرى لدينا إيوان جنوبي في كلّ من الجوّاني والبرّاني وإيوان غربي يتقدّمه رواق في هذا الأخير. أضف إلى ما سبق إيوان رابع جنوب صحن الخدمات.
المدخل الرئيس للبيت قبلي يؤدّي عبر صحن صغير يليه دهليز إلى صحن البرّاني أمّا المدخل الثاني فهو شمالي يفضي إلى جناح الخدمات. أمكن الخروج من البيت أيضاً عن طريق باب خاصّ شمال وغرب الجوّاني يؤدّي للكنيس المجاور (بني حوالي منتصف القرن التاسع عشر) وكان له أيضاً ممرّ سرّي بينه وبين بيت لزبونا إلى الشرق محيت آثار بابه.
بيت فارحي: القاعة الرئيسة
يواجه زائر البيت لدى دخوله إلى البرّاني من الجنوب قاعة البيت الرئيسة الواقعة على الجانب الشمالي للصحن بينما يتواجد الرواق الذي نراه في لوحة Leighton الشهيرة على يساره (الضلع الغربي).
بنيت القاعة الشماليّة قيد الحديث في أواخر القرن الثامن عشر أو مطلع القرن التاسع عشر وإلى هذه الفترة أيضاً تعود زخارفها الغنيّة بما فيها الجدار الأبلقي المطلّ على الصحن وأشغال عجينة الجصّ فوقه.
أوّل ما يلفت نظر الزائر في هذه الصورة (عام ٢٠٠٦ أي قبل إنجاز الترميم) هو المستطيل داخل مستطيل فوق الباب ولوحة الكتابة العبريّة التي تتوسّطه (لنا عودة إليها). عقد الباب منخفض نصف دائري تعلوه سبع ميداليّات زخرفيّة من عجينة الجصّ ونرى على جانبيّ العقد مثلّثات الزوايا spandrels الحاوية على زخارف رخاميّة وصدفيّة مرصّعة opus sectile.
نلج الآن من الباب للقاعة التي تأخذ شكل T ويوتسّطها عتبة (٥،٠٦ x ٥،٥٤ متر) وبحرة مع ثلاث طزرات على جوانب العتبة في الشرق والشمال والغرب. قسمت هذه القاعة إلى عدّة غرف اعتباراً من عام ١٩٧٠ على وجه التقريب وآلت للتداعي في العقود اللاحقة وانهار سقفها إلى أن خضعت -مع باقي البيت- للترميم في مطلع القرن الحادي والعشرين.
الطزر المركزي شمالي يقارب شكله المربّع وأبعاده ٤،٨٣ x ٤،٨٨ متراً. الطزر الغربي أكبر قليلاً (٥،٥٤ x ٥،٣٠ متر) وكان أيضاً في حالة سيّئة قبل الترميم واختفى سقفه العجمي بالكامل مع حلول عام ٢٠٠١. الطزر الشرقي ٤،٨٨ x ٥،٣٣ متر وفي جداره الشرقي باب يؤدّي إلى غرفة متاخمة للقاعة الشرقيّة من الشمال ودرج يفضي إلى قبو تحت القاعة الشرقيّة.
ربطت ثلاث عقود مزخرفة بين العتبة والطزرات الثلاث التي أعيد بناؤها وطلاؤها في ترميم القرن الحادي والعشرين. شمل هذا الترميم بناء سقف جديد بالكامل على غرار أسقف العجمي الشاميّة العريقة.
الكتابة فوق مدخل القاعة الرئيسة
كتابات آراميّة
التقطت الدكتورة Macaulay-Lewis صورة هذا اللوح الكتابي عام ٢٠١١ (أي عندما اكتمل ترميم البيت أو كاد). المكان هو المربّع الشمالي لإيوان البرّاني خلف الرواق الذي رأيناه في لوحة Leighton. الكتابة مأخوذة من التلمود ترجمها السيّد عزرا أشكنازي للإنجليزيّة وتعريب ترجمته هو الآتي:
فلتكن العين التي تنظر بعداوة كعين الأعمى الذي يتخبّط في طريقه خلال المدخل
من الواضح أنّ المعنى -وإن اختلفت الصياغة- يطابق القول المأثور الذي طالما شاهدناه على قفا باصات الهوب هوب: “عين الحاسد تبلى بالعمى” مع بقيّة الأكسسوارات من العين الزرقاء التي تتوسّط الكفّ وما إلى ذلك من إبداع الفنون الشعبيّة.
لا غرابة في استعمال الآراميّة كاللغة الأولى السائدة في الشرق الأدنى مع نهاية القرن الأوّل قبل الميلاد عندما تراجع استعمال العبريّة باستثناء الدراسة والطقوس. تجدر هنا الإشارة للخطأ الذي يقع فيه الكثيرون عندما ينظرون إلى “الساميّة” كعرق أو قوميّة أو دين. الساميّة بكل بساطة أسرة لغات (شأنها في ذلك شأن الأسرة الهنديّة-الأوروبيّة) وأكثر بنات هذه العائلة انتشاراً اليوم وبلا منازع العربيّة. تأتي العبريّة بعدها بمراحل وهناك جيوب ضئيلة من بقايا السريّانيّة (سليلة الآراميّة) في معلولا وغيرها.
أمثلة:
كلمة كوهين بالعبري يقابلها بالعربيّة كاهن (آراميّة الأصل) وحاخام = حكيم و”روش هاشانا” = رأس السنة و”هاعولام” العالم و”إلوهيم” الإله. الاشتفاقات لا تعدّ ويلزمها معاجم خاصّة وخبراء في Etymology أو علم أصول واشتقاق الكلمات.
بيت فارحي: الجدار الروماني
تظهر الصورة الملحقة أحجار الجدار الروماني النحيتة الممتدّة في أساس جدار الصحن الوسطاني لبيت فارحي باتّجاه غرب شرق (عن Weber عام ٢٠٠٦). توضّح الخارطة مسار هذا الجدار (اللون البنّي الداكن) وأقبية البيت المظلّلة أمّا الطابق الأرضي فهو منقّط.
اكتشفت بقايا جدار روماني بين الصحن الوسطاني وصحن الخدمات خلال ترميم بيت فارحي. يعود هذا الجدار على الأغلب لفترة تتراوح بين القرن الأوّل والقرن الثالث للميلاد ويوازي الشارع المستقيم باتّجاه شرق-غرب مع امتداد جنوب-شمال بداية من نهايته الشرقيّة.
ليس لدينا أي معلومات عن البنية الرومانيّة التي شكّل هذا الجدار جزءاً من هيكلها وما نستطيع قوله أنّ بقايا الحائط استعملت في العهد العثماني لرسم حدود بين بيتين أحدهما شمالي والثاني جنوبي. بالتدقيق في مخطّط صحن الخدمات ومحيطه يتبيّن أنّ هذا القسم من الدار يشكّل وحدة مستقلّة كانت على الأغلب بيتاً متكاملاً (البيت الأوّل) بإيوانه الجنوبي (المحاط بمربّعين) ومدخله الشمالي ولربّما كان له قاعة في الشمال والغرب. تكمن المعضلة في تعذّر التعرّف على البنية الأصليّة بعد إضافة عدد من الغرف الطفيليّة في النصف الثاني من القرن العشرين عندما سكنت عدّة عائلات هذا الصرح العريق.
أزيل قسم من الجدار الروماني عندما بني البيت للوصل بين صحن الوسطاني وصحن الخدمات.
الصحن البراني:
نأتي الآن إلى صحن البرّاني (في الشرق) والبنى التي تتمركز حوله. يأخذ هذا الصحن شكل المربّع على وجه التقريب وقد يعكس هذا بناءً رومانيّاً في هذا الموقع أصبح في القرون الوسطى أو مطلع العصور الحديثة بيتاً مستقلّاً (البيت الثاني) له إيوانه الخاصّ في الجنوب أضيف إليه لاحقاً الإيوان الغربي والرواق الذي يتقدّمه (لوحة Leighton الشهيرة عن قطف الكبّاد). يؤيّد القبو الذي يتبع التخطيط الشطرنجي الروماني تحت القاعة الشرقيّة هذه الفرضيّة.
الأدلّة على وجود بيت ثالث تمركز حول صحن الجوّاني الأصغر الواقع في الغرب أضعف منها في حالة جناحيّ البرّاني والخدمات. من المعقول أنّ داراً تواجدت في هذا المكان قبل أن يدمّرها زلزال ١٧٥٩ وهناك أيضاً احتمال أنّ الارض كانت خربة وخالية قبل أن تبتاعها الأسرة لتضمّها إلى القصر. يدلّ شكل الصحن الطويل الضيّق على أنّ موقع الجوّاني كان محدوداً بحدود الأرض المتوافرة للشراء في هذا المكان.
الخلاصة قام الفارحيّون بشراء وجمع وتجديد وزخرفة -إن لم نقل إعادة البناء بالكامل- بيتين على أقلّ تقدير أحدهما شغل موقع جناح الخدمات في الماضي والثاني البرّاني وهناك احتمال أنّ الجوّاني قام على موقع شغله في الماضي بيت ثالث.
تحت أرض بيت فارحي
استغرق بناء بيت فارحي قرابة 25 سنة إلى أن أنجز عام 1805. تدلّ مساحة البيت وتوزيعه أنّه قام على أنقاض بيتين ولربّما ثلاثة (جمع عدّة بيوت في قصر كبير عادة منتشرة إلى درجة لا بأس بها في دمشق القديمة كما في بيوت نظام وسعيد القوّتلي والسباعي وسقّا أميني وشيرازي وغيرها). من الممكن أنّ الأسرة اشترت الأرض أو الأراضي في أعقاب زلزال ١٧٥٩ لتبني عليها قصرها.
تظهر الخريطة الملحقة عن Ross Burns تصوّراً لمدينة دمشق الرومانيّة التي هيمن عليها معبد المشتري. تواجد المسرح الروماني جنوب الشارع المستقيم في القسم الغربي للمدينة داخل السور ونعلم اليوم -بفضل أعمال المعهد الدانماركي- أنّه بني فوق بيتيّ العقّاد وحورانيّة. البراهين على معبد المشتري والمسرح والشارع المستقيم والباب الشرقي والقوس الروماني قاطعة أمّا الأدلّة عن الحصن Castrum وميدان الخيل hippodrome ومسرح الغناء odeon فأضعف بكثير ويدخل فيها الافتراض إلى أبعد الحدود. غزت الأبنية ساحة المدينة forum أو agora (رحبة خالد بن أسيد في القرون الوسطى) منذ قرون.
ننتقل الآن إلى المنطقة جنوب شرق الشارع المستقيم وعلامة X على الخارطة (موقع بيت فارحي). أظهر التنقيب ودراسات Weber و Macaulay-Lewis دلائلاً على وجود بنية رومانيّة مجهولة الهويّة تحت هذا البيت.
الصحن البرّاني قبل الترميم
رأينا أنّ الصحن البرّاني في بيت فارحي أهمّ من الجوّاني -على بذخ هذا الأخير- ومن شبه المؤكّد أنّ الفنّان Leighton اختاره في لوحتيه عام ١٨٧٣ على هذا الأساس.
بلغت مساحة هذا الصحن (استناداً إلى مخطّطات مهندس العمارة حكم ركبي) 16.59 في 16.82 متراً ومع حلول عام 1970 كان البرّاني مجزّءاً إلى وحدات سكنيّة صغيرة مكوّنة من طابق واحد شغلها عديد من السكّان ممّا أدّى إلى تغيّر جذريّ في مظهر الدار.
أزيلت هذه الأبنية الطفيليّة عام 2006 أو قبل وأزيل معها -للأسف- بعض تفاصيل التصميم الأصلي. مع ذلك أمكن عن طريق دراسة ما تبقّى الوصول إلى فرضيّات معقولة وتصوّر منطقيّ للبناء بهندسته وزخارفه والمراحل التي مرّ بها عبر تاريخه الطويل. سمحت هذه الدراسة أيضاً بتوثيق التغيّرات التي خضع لها البيت عندما جدّد بهدف تحويله إلى فندق.
الصورة الملحقة عن Weber وتعود لموسم 1997 – 1998.
بيت فارحي بعد الترميم: زخارف فوق باب القاعة الشرقيّة
التقطت الصورة الملحقة عام 2010 بعد الترميم مع مراعاة الوضع القديم قدر الإمكان استناداً إلى صور رقميّة مكبّرة من العام 2006.
تعلوا زخارف من عجينة الجصّ pastework بشكل ميداليّات عقد الباب الرئيس للقاعة الشرقيّة وفوقها مباشرة نرى مثّلثيّ الزوايا spandrels يلتقيان في الوسط ويعلوهما إطار كبير مستطيل من عجينة الجصّ يتوسّطه لوح حجريّ فيه ثلاث أطر cartouches صغيرة فارغة أعيد طلاؤها خلال الترميم. من المحتمل -بالمقارنة مع عدد من الدور اليهوديّة بما فيها بيت فارحي واللوحة فوق باب القاعة الشماليّة الرئيسة للبرّاني- أنّ هذه الأطر احتوت في الماضي على كتابات تبارك البيت وسكّانه. تنقش هذه الكتابات عادة فوق البيوت المؤدّية من الخارج (الصحن) إلى الغرف الكبيرة أو القاعات.
تزيّن زخارف مماثلة من الميداليّات العقود فوق الشبابيك وعقد الباب الإضافي (تحوّل إلى نافذة بعد الترميم) الذي تعرّضنا له البارحة.