You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

سعد القاسم: تمثال يوسف العظمة

مع مرور مئة عام على معركة ميسلون، أصدرت مؤسسة البريد طابعاً تذكارياً حمل صورة التمثال الأول للشهيد يوسف العظمة، وهو التمثال الذي لم يُنصب أبداً في الساحة التي تحمل اسمه وسط مدينة دمشق، ليحكي بذلك – هو أيضاً – عن الوجه الآخر (المغيًب) لذلك الزمان المجبول بالبطولة والتضحية، والذي شهد بالمقابل، الكثير من التخاذل والغدر والخيانة.

تبدأ قصة التمثال في مدينة سان باولو بالبرازيل منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، حين وجه الطبيب والكاتب الدكتور خليل سعادة، من خلال عدة مقالات نشرها في الصحف الصادرة في البرازيل، نداءً للجالية السورية (التي تضم السوريين واللبنانيين) يدعو فيها لإقامة تمثال للشهيد يوسف العظمة، واستجابت الجالية بشكل منقطع النظير لهذا النداء فجمعت الأموال اللازمة لذلك، وتم تكليف نحات ايطالي بتصميم وصنع التمثال بعد أن وُضعت بين يديه السيرة الذاتية للشهيد العظمة ومجموعة صور له.

في نهاية عام 1937 رفع الستار عن التمثال في حفل وطني كبير، شارك فيه كثير من أفراد الجالية السورية في جميع أنحاء البرازيل، وأُلقيت فيه الخطب والقصائد الشعرية. خلال فترة انجاز المشروع، قامت الرابطة الوطنية السورية في البرازيل (وكان يرأسها الدكتور سعادة) بإعلام دمشق بما تقوم به، وعن رغبتها بتقديم هذا التمثال هدية للوطن الأم. ووفق ما جاء في أوراق الصحفي شمس الدين العجلاني، فإنه في منتصف عام 1937، أي قبل الانتهاء من صنع التمثال، ورد رد إلى الرابطة السورية من النائب في البرلمان السوري فائز الخوري يُعلمهم أن دمشق قامت بتشكيل لجنة لاستقبال التمثال مؤلفة من شكري القوتلي وزير الدفاع والمالية (آنذاك)، وفائز الخوري وفخري البارودي نائبي دمشق وعادل العظمة مدير وزارة الداخلية، وأن اللجنة منصرفة لإعداد قاعدة التمثال وتعيين مكانه، وقامت الرابطة بإجراء المعاملات القانونية في البرازيل وأرسلت التمثال إلى سورية التي كانت ما تزال حينها تحت سلطة الانتداب الفرنسي، وكان رئيسها هاشم الأتاسي ورئيس وزرائها جميل مردم بك.

وصل التمثال إلى دمشق في النصف الأول من عام 1938 (حسب رأي العجلاني)، وأقيم له احتفال رسمي وشعبي ألقيت فيه الخطب الوطنية والقصائد الشعرية التي تمجد الشهيد العظمة وتشيد بمعركة ميسلون، إلى هنا ينتهي حديث العجلاني عن رحلة التمثال إلى دمشق، لكن الحكاية لم تصل إلى خاتمتها السعيدة. إذ لم تستطع السلطات الإدارية نصب التمثال في الساحة المخصصة له، والتي حملت اسمه، لا لأن سلطة الانتداب قد عارضت ذلك، وإنما بسبب قوى محلية تقليدية حالت دون أن يشغل التمثال مكانه وسط الساحة، رغم جلال القيم التي يرمز إليها، وأن يوضع – بدلاً عن ذلك – في مبنى الأركان العامة باعتبار أن العظمة عسكري، وكأن الأمر يتعلق بموظف صغير، لا بقائد كبير قاد معركة بطولية أحدثت هزة قوية وشعوراً بالاعتزاز لدى السوريين، وبصورة خاصة في المهجر، وتحول إلى رمز للوطنية والشجاعة والتضحية. وبالنتيجة انتهى الأمر بالتمثال في حديقة هامشية على جدار مبنى هيئة الأركان القديم (شارع ميسلون) في طرف الساحة التي بقيت تحمل اسمه، حتى مطلع ستينيات القرن الماضي، حين نُقل إلى مكان لائق في حديقة مبنى الأركان الجديد (وزارة الدفاع) في ساحة الأمويين، لكنه أصبح بعيداً عن عيون الجمهور. ومن ثم تعرض لضررٍ كبيرٍ إثر الغارة الإسرائيلية على دمشق في حرب تشرين (أكتوبر) 1973، أما قاعدته فبقيت خالية حتى عام 1966 فنصب عليها تمثال الثوري العربي، الذي نقل عام 2007 إلى جوار مبنى اتحاد الفلاحين، ونُصب مكانه تمثال يوسف العظمة الجديد القائم حالياً.

بعد مئة سنة على استشهاده البطولي، تزداد رمزية يوسف العظمة ألقاً، فهو لم يكن مقاتلاً شجاعاً مستعداً للتضحية بحياته في سبيل إعلاء قيمة نبيلة فحسب، وإنما كان، أيضاً، قائداً عسكرياً كبيراً ومرموقاً قاد القوات العثمانية في معارك كبيرة ناجحة، وكان مثله مثل العديد من الضباط العرب أحد الذين تركوا الجيش العثماني والتحقوا بالجيوش العربية الناشئة إثر نمو النزعة العنصرية التركية ضدهم. لم يتجه إلى ميسلون منتحراً وإنما مقاوماً وضع كل خبرته لصد العدوان بعد أن جمع ما استطاع من متطوعي الجيش الذي حله الملك فيصل إذعاناً لإنذار (غورو)، والذين شكلوا القسم الأعظم من المقاتلين في ميسلون، بعد أن حنثت الزعامات المحلية بوعودها، ولم ترسل إلى ساح المعركة آلاف المتطوعين الذين وعدت بهم، فاقتصر الأمر على عدد يكاد لا يذكر من المتطوعين الوطنيين المخلصين. ورغم ذلك استطاعت تلك القوة الصغيرة غير المتجانسة أن تلحق خسائر في الجيش الفرنسي مع بداية المعركة رغم تباين القوى، وكان لها أن تفعل أكثر لولا خيانة وغدر بعض القوى التي استعان بها جيش العدوان، وتخاذل وانسحاب مجموعة الفرسان المتطوعين بحجة أن القنابل تخيف خيولهم (الأصيلة)، إضافة الى آخرين استلموا السلاح بحجة الدفاع عن الوطن ثم تاجروا به، كلٌ على طريقته، دون أن يذهبوا إلى أرض المعركة أبداً. وفي أرض المعركة كان هناك عملاء وخونة أطلقوا النار على ظهور الجنود، وعطلوا الألغام وأسلاك الاتصالات، ودمروا ذخائر الجيش، وغير ذلك من أعمال الخيانة التي تحفل بتفاصيلها مذكرات ساطع الحصري واللواء صبحي العمري والفريق تحسين الفقير وأوراق بشير الموصلي، حيث جاورت البطولة والتضحية والسمو التخاذل والخيانة والدناءة. فإذا كان من حقنا أن نتباهى بالجانب الأول، فمن واجبنا أن لا نتستر على الجانب الآخر، حتى لا تخفي عباءة بطولة يوسف العظمة ورفاقه، دون رغبة منها، كثيراً من المتخاذلين والخونة والعملاء الذين نسبوا أنفسهم إلى حدث مجيد هم براء منه، بل خصوم له.

كان يوسف العظمة ينشد انتصاراً معنوياً يحول دون أن يُقال إن جيش الاحتلال الفرنسي دخل سورية من دون مقاومة، وإلا لاحتلت صفحة التاريخ صورة الخونة الذين ربطوا أنفسهم مكان البغال التي جرّت عربة الجنرال الفرنسي الغازي إلى دمشق، والذي قابل فعلهم الوضيع بما يليق بهم من احتقار حين سأل وهو ينظر إليهم من نافذة بناء العابد بساحة المرجة عن سبب انتظارهم بجوار البناء، فلما أُجيب بأنهم ينتظرون أن يكافئهم، أمر بأن يقدموا لهم الشعير.

انظر:

دريد لحام ونهاد قلعي في مسلسل الإجازة السعيدة

خلدون المالح في أول برنامج مسابقات في التلفزيون السوري عام 1960

انظر ايضاً:

سعد القاسم: ستون المعهد وكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق

المصدر
نشر المقال في السابع والعشرين من تموز عام 2020 في صحيفة الثورة بعنوان: ميسلون ومئوية العظمة



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى