غدت المقاهي في القرن الثامن عشر من فعاليات السوق والمرافق العامة في دمشق، وظهر المقهى بصفته مرفقاً عاماً يرتاده الناس للترويح والترفيه عن أنفسهم، وتشكلت مع مرور الزمن ثقافة خاصة بالمقاهي التي بلغ عددها في القرن التاسع عشر (110) مائة وعشرة مقاهي في جميع جميع أنحاء دمشق، حيث كانت تسمى إلى ذلك الوقت “بيت القهوة”، وأشهر بيوت القهوة هي : قهوة السكرية في باب الجابية وقهوة اللحامين بالقرب منها، وقهوة الدرويشية وقهوة العصرونية وقهوة المناخلية وقهوة الجنينة بسوق الخيل، وقهاوي العمارة، وقهوة الجاويش في القيميرية وقهوة الرطل في باب توما وقهوة باب السلام. على أن أكثر المقاهي اتساعاً وانشراحاً ما كان منها في المرجة، ففي فصل الصيف تتسع لـ 400 – 500 شخص تظللها أعضان وارفة، وكان منها قسمان قسم صيفي والآخر شتوي، ومنها ما كان يقع في جزر صغيرة كونها النهر ويعبر إليها على جسور.
وكان يرتاد المقاهي عدد كبير من الأتراك يجلسون فيها ليتمتعوا بالخضرة والماء. إذ يشير ميخائيل الدمشقي إلى مقهى الدرويشية في سياق الأحداث التي جرت بدمشق عام 1813م.
ويذكر صاحب مذكرات تاريخية عن حقبة حكم إبراهيم باشا المصري (1830- 1840) وجود ثلاث مقاه فيقول: (تشرب فيها الخمرة والنبيذ وهي قهوة على منين وقهوة باب شرقي وقهوة باب توما).
ويشار إلى أنه ما بين عامي 1827- 1830 إلى مقهيين آخرين أحدهما وقف لمتنفذ عسكري هو حسن تركمان كتخذا، ويقع في زقاق الوسطاني، والثاني في زقاق بادر في حي الميدان. وكان مقهى العصرونية قد بني في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر.
وفي عام 1867م، وضع نعمان قساطلي كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء)، وهو حين يتحدث عن المقاهي يشير إلى وجود مقاه كازينوهات، ويحددها في سوق الخيل، والمرجة الصوفانية خارج باب توما.
ويبين قساطلي في نصه أسعار القهوة وطبيعة المقهى الذي عبر عنه كمرفق عام، فقد تجاوز حدود التسلية في كونه مكاناً ضابطاً للهيئة الاجتماعية، ومكاناً لاجتماع الفتوة والعسكر وهو مجال رحب لاستعراض القوة، إذ يقول :(وثمن فنجان القهوة عشرون بارة في بعض القهاوي وعشر – بارات في البقية، وفي عام 1872 تجددت مقاه كثيرة في المرجة فصار الناس يجتمعون بها ليلاً نهاراً في الفصول الثلاثة، وكان للقهاوي اعتبار كلي في الأيام السالفة لأن جماعة الإنكشارية كانوا يجتمعون بها ويصورون عددهم الحربية وكانوا يعتبرون تلك الصور كراية يحامون عنها، فكان من قتل قتيلاً ووصل إلى وجاق القهوة سلم).
ويشير محمد سعيد القاسمي إلى حال المقاهي وانتشارها وأنواع الخدمات التي تقدم فيها والأشربة ووجوه التسلية في أحياء دمشق، فيقول: (كل محلة لا تخلو من عدة قهاوي، والقهاوي التي ضمن البلدة يكون رواجها كثيراً في الشتاء، وفي فصل الصيف غالب الأهالي ينتشرون لجهة القهاوي كثيراً والتي تروج في فصل الصيف، وهي موجودة في جهة المرجة، وعلى صفاف نهر بردى، فيقعدون بها، ويتناولون القهوة والمرطبات، كالليموناضة وشراب الورد والتوت وغيرها، ويشربون التنباك والسيكارات، والبعض ممن يتعاطي المسكرات يذهب لجهة باب شرقي في حارة النصارى، حيث يوجد هناك قهاوي متعددة تعرف بالجناين في باب توما وقاصدوها يتعاطون القهوة مع الأراكيل والمسكرات.وبهذا لم يكن يسمح بتناول المسكرات علنا في المقاهي إلا بعد دخول إبراهيم باشا المصري إلى دمشق عام 1831م، وإذا أراد أحد تناول المسكرات كان عليه أن يذهب إلى المقاهي في باب توما. كما ويظهر القاسمي أن المقاهي كانت متفاوتة في مظهرها وموقعها وقيمها، والبعض من المقاهي يكون أجرة الدخول إليها والمكث بها 20 بارة، والبعض بعشر بارات والبعض الآخر بخمس.
وبقي حال دمشق هكذا إلى أن وقعت معاهدة كوتاهية بين إبراهيم باشا المصري والسلطان العثماني سنة 1833م، حيث أعلن المصريون عن قراراهم بإنشاء خمارة في دمشق، وبيع إنتاجها في مقاهي دمشق، كقهوة علي ابن منين وقهوة باب شرقي وقهوة باب توما وسوق الخيل وباب مصلى.
قدم للزبائن في بيوت القهوة، البن والأراكيل والمشروبات المثلجة مثل شراب الورد والتوت وغيرها، كما قدمت أيضاً أدوات التسلية المختلفة المعروفة آنذاك. ولقد تطورات المقاهي في القرن التاسع عشر – بفعل المؤثرات الغربية فأصبحت نوعين:
1- النوع الأول هو نوع قديم وكما يسمى بالبلدي، وتتألف من مصاطب مستديرة عليها وحصر – وبها كراسي مربعة وكوانين للتدفئة ومناضد متينة موازية للكراسي.
2- النوع الثاني فهو المدني وبها كراسي خيزران، وما يلزم من أدوات اللعب كالشطرنج والنرد والبيلارد والورق.
ومن المقاهي العروفة آنذاك مقهى حديقة الحكومة، وكان موقعها مكان سرايا الحكومة الميرية، كان مبنى المقهى مؤلف من طابقين، الطابق الأرضي مشيد من الحجارة البازلتية السوداء ومزخرف بالأعمدة والأقواس الجميلة على طول الواجهة الشمالية المتواجدة ضمن الحديقة والمطلة على نهر بردى، وكان المقهى يقوم بخدمة الزبائن والمرتادين والمسافرين إلى بيروت طوال أيام الأسبوع عبر محطة العجلات التي تجرها الخيول المجاورة له، وكان بغص بالزوار أيام العطل الرسمية، أما الطابق الثاني فكان عبارة عن مكان استراحة للباشوات والأغوات ووجهاء دمشق، وهو مبني على الطراز العثماني المتأخر، يعلوه جملون المقهى المميز والمبني من القرميد، هدم هذا المبنى في نهاية عام 1899م، وأزيلت جميع الأشجار المحيطة بها، وأقيم مكانه مبنى السرايا الحكومية.
ومن المقاهي أيضاً والتي اشتهرت في أواخر القرن التاسع عشر – مقهى ديمتري، قبل أن تتحول إلى كراج في بدايات القرن العشرين، كانت مقهى ديمتري من أجل مقاهي مدينة دمشق، وكان معظم زبائنه من الباشوات والبكوات العسكريين والمديين، وكان يحوي على أن طاولة بلياردو أدخلت إلى دمشق. وكان إلى اليسار من هذا المقهى مبنى صغير آخر بسطح قرميدي منخفض كان مقهى التجارة، وأمامه مقهى علي باشا المغطى بالشادر، وإلى الشرق توجد مسرح النصر الذي تحول إلى سينما النصر عام 1922م.
وبذلك ازدادت المقاهي في القرن التاسع عشر- وانتشرت في عدد كبير من محلات دمشق، وكان ملاك المقاهي في تلك المرحلة من كبار الأعيان، وإن ما يرويه عبد الرحمن بيك سامي في وصف المقاهي في نهاية القرن التاسع عشر – بعد عام 1890م يظهر أن القهوة انتشرت وتوزعت المقاهي في مختلف الأحياء بأعداد كبيرة مع وجود فارق في أسعارها وطرزها .
ولقد أغفلت سجلات المحاكم الشرعية في دمشق لهذه الفترة أدوات اللعب في المقاهي فلم تأت على ذكرها، وربما اعتبرتها أدوات ميسر – نهى عنها الدين الإسلامي، وجل ما ذكرته منها، مكانها وهندستها وأثاثها، ومثال ذلك السجل الذي يتحدث عن موجودات قهوة خانة التي كانت موجودة ظاهر دمشق بمحلة سوق السنانية التي كانت تعرف بقهوة الحمام المشتملة على (داخل فناء وسقف مصاطب مستديرة وأوجاق معد لطبخ القهوة ومنافع شرعية، ويشمل كامل كدكها على رفوف وخرستان وشبابيك وغال ومفاتيح وسبعة أراكيل وقشور وأربعة أراكيل نحاس وطاسة نحاس وأربعة دولات نحاس وخمسين كرسي وبساط أحمر وعدة قناديل ومنافع شرعية، وهي من أوقاف سنان باشا).
ويوضح الشكل السابق والمنجز عام 1929 توزع المقاهي في مدينة دمشق في القرن التاسع عشر – على عدة محاور، داخل السور وخارجه:
1- مقهى السكرية في باب الجابية.
2- مقهى اللحامين في باب الجابية.
3- مقهى الدرويشة.
4- مقهى العصرونية.
5- مقهى المناخلية.
6- مقهى الجنينة بسوق الخيل.
7- مقهى الجاويش في القيمرية.
8- مقهى الرطل في باب توما.
9- مقهى باب السلام.
10- قهوة باب توما.
11- مقهى كازينو في سوق الخيل.
12- مقهى كازينو في المرجة.
13- مقهى الصوفانية.
ومن الملاحظ أنها توزعت في أماكن هامة من المدينة، فمثلاً عن الجامع الأموي حيث يعتبر أكبر مكان تجميع اجتماعي على مستوى مدينة دمشق، وعند أبواب المدينة قريباً من أسوارها، حيث توجد مقاهي في باب توما وباب السلام وعدة مقاهي في باب الجابية، فمن المعروف بأنه عند أبواب دمشق تتركز أسواقها، بالإضافة إلى مقاهي أخرى خارج السور أو على حدوده في منطقة الدرويشية، حيث كان الولاة ينشطون بالحركة العمرانية للمدينة، ويعمرون المقاهي الشعبية كأوقاف للجوامع وتقرباً للدمشقيين أيضاً. وهناك تجمع آخر للمقاهي في ساحة المرجة، والتي كانت تعتبر منطقة بساتين يتخللها نهر بردى، فكثرت فيها المقاهي التي كانت تسمى الكازينوهات، والتي تمارس فيها طقوس مخلة بالآداب العامة، وهذا ما جعل هذا النوع من المقاهي خارج أسوار المدينة، وهناك مقاهي أخرى شرق المدينة تحديداً في الصوفانية والتي كانت تشتهر ببساتينها، حيث كان يقصدها سكان باب توما وباب شرقي، فكثرت فيها المنتزهات والمقاهي التي كانت تقدم بعض المسكرات إلى جانب المشروبات الأخرى.