خالد محمد جزماتي – التاريخ السوري المعاصر
وصل الملك فيصل في أواخر تشرين الأول الى مدينة طرابلس الشام بعد أن غادرتها القوات التركية وحكامها المدنيين ، وحلت محلها القوات البريطانية ، فاستقبلته أعيان المدينة وعلى رأسهم مفتي طرابلس السيد عبد الحميد كرامي الذي استضافه في منزله ، وعلى الفور توافدت رجال المدينة ووجهائها للسلام عليه ، فحياهم الملك وشرح لهم مجريات الأمور واّماله العريضة بإقامة الدولة العربية الواحدة ..وقد دقق نظره في وجوه الحاضرين ، ثم سأل عن ضباط طرابلس الذين بأكثريتهم قاتلوا مع الأتراك ضد الانكليز وحلفائهم من العرب بقيادة الأسرة الهاشمية الحجازية وعلى أشهرهم القائد فوزي القاوقجي ، فلما لم يجده أرسل وراءه على وجه السرعة …
لما قدم القاوقجي واثنان من رفاقه الضباط ، استقبلهم الملك فيصل أحسن استقبال وقال لهم أمام الجمع الحاضر وحسب رواية القاوقجي في الصفحة 15 من مذكراته : ” انني لا أنتقد ولا أعتب على أحد ممن اّثر البقاء في الجانب التركي ، واجتهادكم هو الذي ساقكم لأن تدافعوا جنبا الى جنب مع الترك بأمانة واخلاص ، وهذا من حقكم . أما الاّن وقد أودعت مقدرات البلاد التي أنتم أبناؤها الى أيدينا ، فإني أدعوكم الى خدمتها ” ….فاستجاب الضباط الثلاثة لدعوة الملك فيصل ، وزودهم بكتاب خاص الى رئيس مجلس الشورى الحربي ياسين باشا الهاشمي لتعيينهم في الجيش العربي ، وكان نصيب القاوقجي تعيينه في الشعبة الثالثة من ديوان الشورى الحربي .
وبدون سرد التفاصيل المعروفة حول انذار غورو التي تسلمته الحكومة العربية في يوم 14 نموز 1920 جاء الأمر لفوزي القاوقجي بالتحرك بسريته من ” المعلقة ” الى دمشق مركز قيادة الكتيبة التي يتبع اليها ، وقابله محافظ دمشق ياسين الهاشمي وقال له ان الملك فيصل يريد أن تذهب اليه فورا ، فلما حضر اليه وجها لوجه قال له الملك : ” ان الأمر خطير واني منتدبك الى قيادة جموع من بدو “نوري الشعلان” واكثرها من الفرسان وسلاحها جيد فقم بما اتصفت به من المرونة والحنكة مقام المرشد القائد، وخذ سريتك معك، وسرية اخرى من الرشاشات وانطلق حيث شئت وراء الجيش الفرنسي ، وإن في مقدرتك أن تسطر صفحة خالدة من المجد في الدفاع عن بلادك ، وان النوري قد تلقى التعليمات وهو منتظرك في داره، فانصرف على بركات الله ” ..
وانطلق فوزي القاوقجي الى دار نوري الشعلان للاجتماع به تنفيذا لأوامر الملك ، ولما وصل الدار واجتمع بنوري الشعلان اتفقا على حشد القوات معا في ثكنة الحميدية في البرامكة، وهكذا قام القاوقجي بتجهيز سريته وسرية الرشاشات بكل مايلزم واتجه بهما الى ثكنة الحميدية ، وانتظر نوري ورجاله حسب الاتفاق ..ولكنه وبعد طول انتظار ممل ..لم يأت النوري ولا رجاله، بل أتى ابنه نواف مع 20 فارسا فقط، وأفاده بأن بقية الجموع من الفرسان توجهت الى قرية الصبورة في صحراء الديماس متبعة طرقا مختلفة ، ونحن واياك سنلتحق بهم …فكظم القاوقجي غيظه وشعر بأن نواف النوري الشعلان يماطله …! ووصلوا الصبورة ولم يجدوا فرسان النوري ، فاضطر القاوقجي للتمركز وبدأ بنشر قواته واتخاذ مراكز للرشاشات ، فجعلها تتمركز ضمن مسطيل على رأس أضلاعه وفي منتصف كل ضلع ، وكان ذلك صباح يوم 23 تموز 1920 ..وماهي الى زمن قليل حيث بدأ يسمع أزيز طائرات العدو الفرنسي الاستطلاعية ، ولما شعر بأنها كشفت بعض مراكز تمركز قواته بالتحليق فوقها على ارتفاع منخفض ، أمر رشاشاته باطلاق النار عليها فقط عند وصولها الى منتصف مستطيل تمركز سرية الرشاشات ، وهذا ما حصل فأصابت رشاشات القاوقجي طائرة وأسقطت أخرى ، أسرع بنفسه الى مكان سقوطها في صحراء الديماس وأسر قائدها الكابتين “دنكلوجين” ومعاونه فني الطائرة ، فاستجوبه وحصل منه على بعض المعلومات ورأى على جسم الطائرة ثلاث عشرة اصابة …
ولما بدأت معركة ميسلون حاول القاوقجي التقدم بقواته فقط لأن فرسان نوري الشعلان نكثوا بوعودهم ، ثم بدأ برؤية جموع كثيرة من قوات يوسف العظمة وهي تنسحب بشكل فوضوي، ثم شاهد بأم عينه حسب ما رواه في مذكراته في الصفحة 85 جموع من البدو تهاجم المنسحبين وتستولي على أسلحتهم وتجهيزاتهم …..
وفي هذه الأثناء تفاجأ فوزي القاوقجي بقدوم رسول من قبل نواف الشعلان يطلب منه تسليم ما لديه من أسلحة وخيل لتوزيعها على رجاله للوقوف في وجه تقدم الجيش الفرنسي ولعدم تمكن الجيش العربي من الصمود ، وهنا أدرك القاوقجي سوء نية نواف الشعلان ، فبدأ بأخذ الحيطة والحذر ، باعادة تمركز الرشاشات ، ثم اعطاء الأوامر لفرسانه بالاختباء وراء احدى التلال ..وكان ظنه في محله ، حيث أغارت عليه فرسان نواف الشعلان لسلبه أسلحته وخيله ، ولكن رشاشاته كانت لهم بالمرصاد ، فحصدوهم حصدا وشتتو شملهم ..وكانت معركة ميسلون قد حسمت ، فجهز قواته من جديد وعاد الى دمشق ، وقال في مذكراته معلقا : ” وفر الملك الى داريا بصحبة حاشيته ، وبذا خمدت أنفاس الحكومة العربية في دمشق في لحظات معدودات قضت على الأحلام الذهبية ، وسجل التاريخ ظلما ، عدم أهلية الجندي العربي للدفاع ، ذلك الجندي الذي امتاز بصفاته الحربية وبذكائه وشجاعته وبسالته وتقديره الموقف ، مما شهد به القادة الألمان ودونه القائد فون كريس باشا في مذكراته ” …
اقرأ:
خالد محمد جزماتي: مـعـركـة مـيسـلـون.. خسائرالطرفين (4)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (3)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (2)
خالد محمد جزماتي: الجيش العربي ومعركة ميسلون (1)
خالد محمد جزماتي: تأسيس الدولة العربية في دمشق 1918- 1920
الدكتور توفيق الشيشكلي .. زعيم حماة و رئيس الكتلة الوطنية
أحمد سامي السراج .. أعلام وشخصيات من حماة
المحامي رئيف الملقي .. أعلام وشخصيات من حماة