مختارات من الكتب
من مذكرات أمين أبو عساف: الدخول إلى الكلية العسكرية (6)
في نهاية العام الدراسي / 1928 – 1929/ دعينا نحن الطلاب من كل مدارس الجبل في الصف الأول، وهكذا كانت تسميته لامتحان عام في السويداء، اعتبروه كامتحان للشهادة الابتدائية وكان العدد ثمانين طالباً..
تم انتقاء اثني عشر طالباً لإتباع دورة خاصة سموها (الصف العالي)، وهي أشبه بدار المعلمين وكنت منهم، مدة الدراسة ثلاث سنوات أما باقي الطلاب فقد تركوا الدراسة.
تم تعيين ضابط احتياط فرنسي يدعى “جران” كمدير لهذه الدورة .. وقد بدأ يعلمنا بالإضافة إلى المواد التي كنا نتلقاها – العلوم الطبيعية، الفيزياء، الكيمياء، الهندسة، الجبر، وتاريخ فرنسا وجغرافيتها بالتفصيل ومختصر عن تاريخ وجغرافية سوريا ولبنان باللغة الفرنسية، وكان يساعده الأستاذ “بولص هاشم” ويعلم دروس القراءة والقواعد والإملاء باللغة العربية.
وقد وجد الأستاذ “جران” طلاباً أذكياء وعندهم قابلية ممتازة لتلقي العلوم فتوسع في البرنامج، مما سبب له انتقادات من رؤسائه .. في السنة الثانية أبعدوه عن التدريس وأتوا بمعلمي الابتدائي ليكلموا ما بدأه “جران” وبما أننا كنا نعرفهم فقد شعرنا بالفرق، فأضربنا عن متابعة الدراسة ولأول مرة في تاريخ حكومة “جبل الدروز” تقوم فئة بالإضراب فلقد بدأنا نشعر كيف يعطوننا العلم المبتور .. إذ لا يمكن لأي طالب أن يتابع دراسته في أي مكان آخر .. الشهادة الممنوحة محلية وصالحة في جبل الدروز فقط . يمكن لحاملها أن يمارس عمله كمعلم أو موظف وفي دويلة جبل الدروز حصراً.
لقد كانت نتيجة الإضراب جيدة فأتوا بضابط احتياط آخر يخدم في البحرية ويدعى “دونرى” وإن لم يكن مندفعاً مثل الذي سبقه إلا أنه كان جيداً وقد أمضيت باقي الدراسة معه.. صار بإمكاننا فهم أوضاعنا على حقيقتها في ظل الانتداب وواجبنا نحو الوطن الكبير .. مثلاً حكم الجبل العسكري، وكيف يعامل الشرطة والدرك الجنود الأهالي، مهزلة الكوكبات الخفيفة وكيف يقودها الضابط الفرنسي يعاونه الرقيب الفرنسي المحاسب. وقد كوَن الطلاب رأيا أنه لا يمكن أن نحصل على حريتنا مالم تبدأ الطبقة المثقفة من كل أنحاء سورية بالدخول إلى الكلية العسكرية لتخريج ضباط نظاميين يمكنهم السيطرة على جيش الشرق الخاص، القوة الوحيدة التي يمكنها الوقوف في وجه الفرنسيين.
خلال السنة الثالثة سنة التخرج سألني الأستاذ “دونرى” ماذا سأفعل بعد التخرج. أجبته ليس لدي خيار إلا سلوك طريق من سبقني أي أن أكون معلماً. قال: أقترح أن تتخصص في الزراعة، تذهب إلى مدرسة “بوقا” في اللاذقية إذ أن أراضيكم واسعة يلزمها مهندس زراعي: أجبته أن ارضنا قسمت وهي محدودة جداً وليست مروية ولا تحتاج إلى مهندس زراعي.
قبل ذلك كان المستشار قد طلبني مع أفراد صفي وكنا خمسة في قرية “سُليم” لينتقيي منا واحداً لتعيينه ترجماناً في الكوكبة الخامسة قيد التشكيل وكان والدي موجوداً، فوقع الاختيار عليَ. رفض الوالد وقال : إذا دخل الكلية العسكرية فلا مانع لدي، أما تعيينه في الكوكبات فلن أوافق على ذلك أجابه المستشار قائلاً: يدخل الآن جندياً وفيما بعد ندخله الكلية العسكرية، رفض والدي هذا الطلب أيضا وعدنا. كنت أرغب في التطوع طمعاً في الراتب وترك المدرسة وقد وسطت من يقنه والدي بهذه الرغبة وغيرها ولكن والحمد لله ولحسن الحظ رفض. ولقد كان والدي على صلة دائمة مع مدير المدرسة “الصف الخاص” حيث كان يأتي بشكل دائم ويقابل المدير ويسأله عني وعن نشاطي المدرسي وسلوكي وملاحظاته ولقد دعاه عدة مرات إلى قرية “سُليم”.
بعد مدة رآني الأستاذ “دونرى” ممتطياً صهوة جواد وكان واسطة نقل في ذلك الوقت، فعرض علئَ إذا كنا أرغب الدخول إلى الكلية العسكرية حتى يؤمن لي المساعدة مع الليوتنان “فييت” مدير المعارف فوفقت شخصياً ووافق والدي أيضاً.
عندما بدأنا بتحضير الوثائق تبين أن سني في الهوية أصغر من المطلبو، سعينا لتكبير السن، كان ندير الداخلية “توفيق بك الأطرش” وكان يشرف على دائرة النفوس أيضاً فرفض تكبير السن ولم أتمكن من تقديم الإضبارة. كان ذلك في نهاية العام الدراسي / 1931- 1931/ وقد حصلت على شهادة التخرج.
وعدني مدير المعارف الليوتنان “فييت” ومدير المدرسة الأستاذ “دونري” إن بقيت في المدرسة سنة أخرى أي بإعادة سنتي الدراسية فهما يتكفلان بإدخالي إلى الكلية العسكرية. وافقت على ذلك وأعدت السنة وكان والدي قد شجعني على ذلك، خلال صيف عام /1932/ جرى إحصاء نفوس جديد وكان رئيس اللجنة “سليم بك هنيدي” جرى تصحيح السن ضمن المطلوب..
عند تقديم الطلبات خلال حزيران عام 1933 فوجئت بعرض لم يكن في الحسبان. فقد أخبرني مدير المدرسة أنه ومدير المعارف لا يمكنها ضمان قبولي بالكلية العسكرية إلا بمساعدة الجنرال الحاكم أو المستشار الإداري أو قائد الجيش في السويداء.
فقد كان الحاكم يدعم الطالب “صالح بن عبد الغفار باشا الأطرش” والمستشار يدعم الطالب “نعمان أخو الأستاذ نجيب حرب” مراسل صحف ، أما قائد الجيش فكان يدعم المساعد “توفيق الشوفي” واقترحوا حلاً أن أتطوع في الكوكبات كي أدخل الكلية في العام القادم. لم أوافق على هذا العرض وقلت لهما إذا حدثت عقبة في العام القادم ماذا سأفعل؟ لقد وعدتموني سابقاً أن أعيد السنة الدراسية لأدخل الكلية وقد تخرج رفاقي للتعليم وبقيت مع الذين جاؤوا بعدي بسنة فلن أوافق على ذلك. عندما سئلت عما سأفعل إذا لم أقدم للكلية العسكرية أجبتهم سوف أعمل بالزراعة .. طلب مني إرسال والدي للاتصال بهما .. أخبرته بما جرى وجاء لمقابلتهما طلباً منه أن يقنعني بقبول عرضهما فقال لهما لا يمكنني أن أفرض رأيي في موضوع يتعلق بمستقبله وهو بهذا السن والثقافة وعاد دون أن يتخذ أي قرار .. بعد أيام من التفكير وقبل إرسال الإضبارة عدت إليهما وقلت لهم أنتما في حلَ من مساعدتي ولكن أطلب إليكما ألا يكون في إضبارتي أي شي يؤثر على قبولي، وعداني بذلك، وتقدمت بطلبي وكنا سبعة من حكومة الجبل ممن تقدموا للامتحان .. أثناء الامتحان في دمشق كان المراقبون من ضباط الجيش الفرنسي، كانت المادة تاريخ فرنسا وقف الكابتن المراقب يقرأ ما أكتبه .. سألني أين تلقيت دراستك، أجبته في السويداء، سأل هل يعلمون هكذا في السويداء، قلت نعم ما رأيك في الجواب؟ قال : أكمل وقد لمست بارقة الرضى عليه.
خلال شهر آب عندما ظهرت النتيجة كان مدير المعارف ومدير المدرسة في بيروت وقد أطلعا على أسماء الناجحين في المفوضية الفرنسية، فأرسلا إلي برقية تهنئة قبل أن يصلني الإعلام الرسمي. وبعد عدة أيام وصلني كتاب القبول وتعليمات الوصول إلى الكلية العسكرية. ثم وصلني طلب رسمي لمقابلة الجنرال الحاكم “ماسييت”.
ذهبت مع الوالد وعندما قابلناه قال لي : كيف قدمت طلباتك إلى الكلية العسكرية ولم تطلب مساعدتنا؟ أخبرته بما جرى لكن الوالد قال له هذا بمسعاكم واهتمامكم، أجابه إن ابنك نجح بجهوده الخاصة ولم نساعده. فرد والدي: أنه تعلم بمدارسكم وشكراً لكم.
طلب الجنرال أن أزوره قبل ذهابي إلى الكلية العسكرية كي يعطيني توصية لمدير الكلية، وعندما جئت لزيارته كان استقباله لي لطيفاً حارياً. قال لي ما دمت تعتمد على نفسك فلا حاجة للتوصية قلت له أنت طلب ذلك ولا أصرَ عليها. قال يجب أن تعتمد على نفسك في كل حياتك العسكرية كما فعلت حتى الآن. ولكن أطلب منك أن تأتي لزيارتي كلما أتيت إلى الجبل أثناء العطل. وهكذا كان طيلة وجوده في الجبل، يستقبلني بسرور ويسألني عن العمل في الكلية ويعطيني النصائح، وكنت أزور اليوتنان “فييت” والأستاذ و الأستاذ ” دونرى” وقد بقي في السويداء حتى تخرجت.
كان رسم الدخول إلى الكلية العسكرية خمسين ليرة سورية سنوياً وكلفة بدلات الخروج الصيفية والشتوية في السنة الأولى ستين ليرة والمصروف الشخصي ما بين خمس إلى عشر ليرات وكذلك أجور السفر أي كنت بحاجة إلى أكثر من مائة وعشرين ليرة سورية، وهذا أكثر من عشرين ليرة ذهبية والحالة المادية في الجبل سيئة.
أرسلني والدي إلى مستشار القضاء لأشرح له الوضع علَه يعطينا قرضاً زراعياً فأبي، وأخيراً تمكن والدي من بيع قطعة أرض واقترض جزء آخر لأنه لا يوجد من يشتري.
رغبت في شرح هذه القضية لأبين صعوبة الحالة المادية في ذلك الحين.
في الثامن من أيلول 1933 ذهبت إلى حمص، وقد شاع خبر وفاة الملك “فيصل” الأول والتأثر بادِ على الجميع، وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكلية العسكرية حيث قضيت مدة ثلاث سنوات.
اقرأ:
من مذكرات أمين أبو عساف : بدايات الحكم الفرنسي في السويداء
من مذكرات أمين أبو عساف : أسباب الثورة السورية الكبرى 1925
من مذكرات أمين أبو عساف: اشتراك حوران وعرب اللجاة في الثورة السورية الكبرى