بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر “العربي الجديد” كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
اسمه الحقيقي أحمد نهاد قلعي الخربوطلي. ونهاد قلعي هو الاسم الذي اعتمده في أعماله الفنية. أما حسني البورظان فهو اسم الشخصية الكوميدية الكاريكاتورية التي اخترعها والتي جعلته فناناً شهيراً. ولا تعرف من سيرته الفنية سوى هذه الشخصية شريكة غوار الطوشه، دريد لحام. لكن الرجل كان موجوداً في الساحة الفنية قبل حسني البورظان. بل ولم يكتفِ بالتمثيل إذ كان مخرجاً مسرحياً وكان كاتباً لنصوص عدة.
ولد في دمشق سنة 1928 وفيها تلقى علومه الابتدائية والثانوية وكان ناشطاً في فرق المسرح المدرسي. كان أمله أن يلتحق بمعهد الفنون المسرحية في القاهرة ونال قبولاً، لكنه تعرض لحادثة مزعجة، إذ سُرقت نقوده فلم يتمكن من السفر.
عمل في مهن مختلفة: مراقباً في مصنع، ضارباً على الآلة الكاتبة في جامعة دمشق، موظفاً في وزارة الدفاع، ثم “مخلّص معاملات” في مصلحة الجمارك. وكانت المهنة الأخيرة آخر عهد له بالوظائف. بيد أنه قبل أن يصبح الممثل المحترف شارك في عدة مسرحيات قدمتها فرق هواة. وكان لا يزال موظفاً حين أسس سنة 1953 مع مجموعة من الشباب من هواة المسرح “الفرقة الشرقية للتمثيل والموسيقى” التي سيصبح اسمها “النادي الشرقي”، وقد قدمت عدة أعمال مسرحية لمؤلفين عرب وعالميين. واشتهر منها محمود جبر بالتمثيل الكوميدي وخلدون المالح (المخرج التلفزيوني لاحقاً) وسعيد النابلسي (مهندس الديكور). وفي عام 1959 أخرج نهاد قلعي للفرقة مسرحية “ثمن الحرية” للمؤلف الفرنسي إيمانويل روبلس. وقد عرضت هذه المسرحية في القاهرة زمن الوحدة بين مصر وسورية.
وفي سنة 1959 تأسست وزارة الثقافة في سورية، وتولّى المثقف نجاة قصاب حسن منصب مدير المسارح والموسيقى. وسعى إلى إنشاء فرقة مسرحية تكون “المسرح القومي”. كانت هناك فرق مسرحية صغيرة لا تملك المقومات التي تملكها وزارة الثقافة، منها فرقة “المسرح الحر” التي تأسست سنة 1956 على يد عبد اللطيف فتحي ورفيق السبيعي. وفرقة “النادي الفتي” التي تأسست في العام نفسه على يد محمود جبر، وسواها من فرق الهواة. جمع نجاة قصاب حسن هؤلاء واختار منهم منتخباً كان عماد المسرح القومي. تولّى محمود المصري الإدارة العامة ونهاد قلعي الإدارة الفنية بالمشاركة مع رفيق الصبان.
كان الافتتاح سنة 1960 بمسرحية “براكسا جورا” بإخراج رفيق الصبان. وهي من التراث المسرحي الإغريقي. كوميديا كتبها أريستوفانيس واستوحى توفيق الحكيم من موضوعها وشخصيتها الرئيسية مسرحيته “براكسا أو مشكلة الحكم”. وكانت المسرحية الثانية “المزيفون” من تأليف الأديب المصري محمود تيمور وإخراج نهاد قلعي، الذي أخرج بعد ذلك مسرحية موليير “البورجوازي النبيل”، ثم أعاد إخراج “ثمن الحرية” وشارك في التمثيل نجوم المسرح القومي الجدد ثراء وسناء دبسي، وسليم صبري وسواهم. ومن بعد انضم إلى المسرح القومي المخرج الأردني هاني صنوبر. وبعدما مارس نهاد قلعي مهمة الإخراج المسرحي، إلى جانب التمثيل طبعاً، استقال من المسرح القومي.
وفي عام افتتاح “المسرح القومي” تأسس التلفزيون السوري. كان المدير العام صباح قباني (الدبلوماسي وأخو الشاعر نزار) اقترح تقديم سهرة كوميدية استعراضية. وحدث أن الذين شاركوا فيها صاروا نجوماً ساطعة في الكوميديا: دريد لحام، ونهاد قلعي، ومحمود جبر، والمخرج خلدون المالح.
من بعد شكّل دريد لحام ونهاد قلعي الثنائي الكوميدي الشهير: غوار الطوشة وحسني البورظان. قدما معاً مسرحية كوميدية استعراضية “عقد اللولو” أخرجها نهاد قلعي. وهي التي تم اقتباسها في فيلم سينمائي بالعنوان نفسه، أخرجه يوسف معلوف، وانضمت صباح وفهد بلان إلى الثنائي في أدوار البطولة. وكان باكورة عمل الثنائي في مجال السينما. شجّع الإقبال الجماهيري الكبير المنتج نادر الأتاسي ورفيقه تحسين القوادري على مواصلة إنتاج أفلام من بطولة الثنائي دريد ونهاد. ثم تهافت المنتجون في سورية ولبنان على التعاقد معهما. وبلغ عدد الأفلام التي اشتركا فيها معا 24 فيلماً، كان نهاد قلعي كاتب السيناريو أو مشاركا بالكتابة في معظم هذه الأفلام.
وأطل الثنائي على جمهور التلفزيون العريض بشخصيتي غوار الطوشة وحسني البورظان في أربعة مسلسلات تلفزيونية تابعها الجمهور في سورية والعالم العربي باهتمام وإعجاب. باكورة المسلسلات كان “مقالب غوار” من إخراج خلدون المالح وكتابة نهاد قلعي. تلاه “حمام الهنا” من إخراج العراقي المقيم في دمشق آنذاك فيصل الياسري، ثم “صح النوم” و”ملح وسكر” من إخراج خلدون المالح. وكان نهاد قلعي كاتب السيناريو والحوار للمسلسلات الأربعة. وهي المسلسلات التي اشتهر بها إلى جانب الثنائي: عبد اللطيف فتحي (بدري بك أبو كلبجة)، ورفيق السبيعي (أبو صياح)، ونجاح حفيظ (فطوم حيص بيص)، وزياد مولوي (عبده)، وياسين بقوش (ياسين)، وناجي جبر (أبو عنتر) وسواهم. وهي المسلسلات التي ذاعت منها عبارات رددها الناس: “حارة كل مين إيدو إلو”.. و”إذا أردت أن تعرف ما يجري في البرازيل فيجب أن تعرف ماذا في إيطاليا”! وختم نهاد قلعي مهمته ككاتب للتلفزيون سنة 1984 بمسلسل “عريس الهنا” قام ببطولته من دون اشتراك دريد لحام.
في 1969 في أول مواسم مهرجان دمشق المسرحي انبهر الجمهور، بل واحتفى النقاد السوريون والعرب أيضاً بعرض فرقة “مسرح الشوك” وهو مبني على مشاهد مسرحية كوميدية نقدية. هو اللون المسرحي المعروف في فرنسا باسم “الشانسونييه”، وفي ألمانيا باسم “الكباريه السياسي”. كان العرض من تأليف عمر حجو، وإخراج دريد لحام، والأدوار الرئيسية أدّاها دريد لحام، ونهاد قلعي، ورفيق السبيعي، وزياد مولوي، وأحمد قنوع وسواهم. وكان سليم صبري مستشاراً فنياً. ولم يكن في العالم العربي من يقدم هذا اللون سوى “مسرح الساعة العاشرة” في بيروت، باللغة الفرنسية مع اسكتش واحد باللهجة اللبنانية. وبينما اعتمدت الفرقة اللبنانية على التلاعب اللفظي وكانت تسمّي الشخصيات السياسية بأسمائها من دون تدخل الرقابة، لم يكن الفضاء الحرّ متاحاً تماماً للفرقة السورية، وهي قدمت المشاهد الكوميدية بطابع مسرحي، وتميّزت بالعبارة النقدية الساخرة التي عكست الهموم الاجتماعية مع ملامسة الحالة السياسية بالإيحاء.
وفي العام التالي قدمت فرقة مسرح الشوك عروضها في بيروت. أيامها عرفت نهاد قلعي، ودريد لحام وبقية أفراد الفرقة شخصياً، وبدأت صداقة بيننا. أما التعاون الفني فكان في فيلمين من إنتاج تحسين القوادري، الأول “واحد زائد واحد” إخراج يوسف معلوف (1971) والثاني “عندما تغيب الزوجات” إخراج مروان عكاوي (1977). وكلاهما من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي. في الفيلمين كنت كاتب السيناريو والحوار، وفي الفيلم الأول شاركني نهاد قلعي في كتابة السيناريو.
وفي بداية عملنا في الفيلم الأول دعاني نهاد قلعي إلى العشاء في “نادي الشرق” المطعم العريق في دمشق. وهو كان من رواده يومياً يتسلّى بلعب الورق مع مجموعة من الأصدقاء ثم يتناول العشاء هناك أحياناً. حين دخلنا ترامى إلى سمعي صوت يناديني “فارس” التفتّ فلم أجد أحداً. ثم أتاني النداء نفسه بصوت آخر. ثم بصوت ثالث. وتعجبت من الأمر فلا أحد يعرفني هنا. لكن نهاد يعرف سرّ النداء وكتمه عني عمداً. انفجر ضاحكاً وهو يشير إلى رجل وقال لي: هذا هو فارس، كبير النادلين هنا.
وكان نهاد قلعي ذوّاقة في مسألة الطعام. دعاني مرة إلى مطعم في دمشق، وقبل أن نذهب مرّ ببيته وطحن التوم وأخذ من المطحون علبة معه. وهو كان يسكن بين دمشق وبيروت. في دمشق بيته في حي المهاجرين. وفي بيروت في حيّ الروشة، شقة مطلة على البحر مقابل مقهى “الدولتشه فيتا”. يوميا يهيّئ لنفسه صحون المازة ويتفنن بها. أحياناً إذا رآني من شرفته وقد وصلت إلى المقهى يتصل تلفونياً ويدعوني إلى مشاركته الكأس.
في سنة 1974 تأسست في دمشق فرقة “أسرة تشرين” المسرحية. وكانت مسرحية “ضيعة تشرين” باكورة إنتاجها، وهي من تأليف محمد الماغوط، ودريد لحام، وإخراج دريد لحام وبطولته ومعه نهاد قلعي، وعمر حجو، وملك سكر، وأسامة الروماني، وياسر العظمة، وصباح الجزائري، وشاكر بريخان، وحسام تحسين بك. وحققت المسرحية نجاحاً فنياً وشهدت إقبالاً شعبياً في دمشق، ومختلف المدن السورية، وفي بيروت، وبعض العواصم العربية.
وبعد سنتين قدمت الفرقة العروض الثانية لها وكانت المسرحية بعنوان “غربة” وفيها الطاقم الفني نفسه في التأليف والإخراج والتمثيل، سوى أن سامية الجزائري حلّت محل ملك سكر. واستقبلت بالحفاوة نفسها التي استقبلت بها المسرحية الأولى. وكانت لمّا تزال قيد العرض في دمشق حين تعرّض نهاد قلعي للحادثة التي أصابته بالشلل وغيّرت مجرى حياته.
قبل أن أروي تفاصيلها أودّ الإشارة إلى أن نهاد قلعي هو الذي ابتكر شخصية حسني البورظان. لكنه يمقت أن يناديه أحد من المعجبين أو من المارة بهذا الاسم. ولهذا علاقة بالحادثة المؤسفة.
في تلك الليلة من عام 1976 كان نهاد قلعي يتناول وجبة العشاء في مطعم “النادي العائلي” الشهير في حيّ القصّاع في دمشق. وكان معه دريد لحام، وشاكر بريخان، والصحافي اللبناني جورج إبراهيم الخوري رئيس تحرير مجلة “الشبكة”، وشفيق نعمة المحرر في المجلة. وعند منتصف الليل استأذن دريد لحام وانصرف ومعه جورج إبراهيم الخوري وشاكر بريخان. وظل شفيق نعمة يجالس نهاد قلعي الذي رغب في مواصلة السهر والأكل والشراب. وحدث أن علبة الدخان فرغت من السجائر فطلب نهاد قلعي علبة. وكانت من نوع معيّن. عاد إليه النادل معتذراً بأنه لم يجد الماركة التي طلبها، فاغتاظ نهاد وعبّر عن غيظه. عند الطاولة المجاورة كان بعض الشباب ساهراً وسمعوا ما جرى بين الممثل الشهير والنادل. كانوا سكارى وكان نهاد قلعي لم يبلغ الثمالة بعد. وكان أن صاح أحد هؤلاء “حسني.. إذا بدك سيجارة تعا حتى نضيفك”. إضافة إلى العرض غير اللائق اهتاج نهاد من اسم حسني فأجابه بكلمة حادة، فجاءه الردّ “حسني وبورظان كمان”! وتطور الأمر إلى ارتفاع منسوب الشتائم المتبادلة إلى أن رفع الشاب الكرسي الحديدي الذي كان يجلس عليه وضرب نهاد قلعي على رأسه. فانفلق! وانهمرت منه الدماء. نقل إلى المستشفى وأصيب شفيق نعمة من ارتداد الكرسي بإصابة طفيفة في رأسه. ودق باب غرفتي في الفندق بدمشق عند الفجر فرأيته معصوب الرأس وأخبرني التفاصيل التي رويتها.
تم علاج نهاد قلعي في تشيكوسلوفاكيا وعاد مصاباً بالشلل النصفي منع الحركة عن ذراعه اليسرى وجعل نطقه للحروف بصعوبة. وبسبب تلك الإصابة توقف عرض مسرحية “غربة” أياماً، ثم أُسند دور نهاد إلى تيسير السعدي. بيد أن دريد لحام أصرّ لدى تسجيل المسرحية للتلفزيون على أن يؤدي نهاد قلعي دوره. وهذا ما حدث.
وكان فيلم “عندما تغيب الزوجات” آخر أفلام نهاد قلعي، ولم يكن يقوى على تحريك يده. ابتكرنا أنا والمخرج مروان عكاوي حلاً فجعلنا في الحكاية أن الرجل كسر يده ما استدعى تجبيرها وربطها.
اقرأ:
نهاد قلعي : مثلت (البورجوازي النبيل) بقدمي المكسورة في حضرة رئيس الجمهورية