أكتب في 3 تموز 2017 عن حادثة ذات دلالة تذكرتها بمناسبة مهاتفتي الأستاذة ذكاء الجابي، مديرة مكتب السيدة نائب رئيس الجمهورية، مقدما لها التعازي بوفاة شقيقتها الوزيرة الأستاذة غادة الجابي، رحمها الله.
في النعية إشارة إلى علاقة نسب بين صديقي شقيق المتوفاة، رحمه الله، بوزير العدل أيام الجمهورية العربية المتحدة الأستاذ نهاد القاسم، رحمه الله. تذكرت الحادثة — ولم أذكر تفاصيلها بالطبع — حين سألت عبر الهاتف عن ذرية الوزير القاسم، وعمن يعتني من ذريته بتراثه. ثم خطر لي أنها حادثة تستحق التسجيل فتصرف طرفيها معقول مقبول، بل ومشرف.
جرت الحادثة في أوائل تموز 1961، أي قبل 56 عاما. مسرحها: مكتب وزير العدل في قصر العدل بدمشق. معاون النيابة العامة في اللاذقية، صاحب هذه الأسطر، يزور وزيره مودعا اثر استقالته من العمل في وزارة العدل، لكي يغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية موفدا من قبل قسم الفلسفة بجامعة دمشق ليتابع الدراسة ويعود إلى القسم عضو هيئة تدريسية فيه.
كانت تلك الزيارة الثانية للوزير. أما الأولى فكانت في بداية العمل، ذات يوم في خريف عام 1960. فيها أديت قسم القضاء بحضور الأستاذ محمد آقبيق، النائب العام، رحمه الله. وفي أيام لاحقة علمت أن الأستاذ آقبيق والد زوجة الشاعر نزار قباني الأولى.
الوزير على كرسيه خلف المكتب. معاون النيابة على واحد من كرسيين أمام المكتب. الموفدون الذين سيغادرون إلى أمريكا خمسة من الأوائل، بينهم زميل صديق كان والده وزيرا للعدل في وقت كان فيه وزير العدل الحالي ممن يعملون في الوزارة.
سأل الوزير معاون النيابة: متى السفر؟
الإجابة: يوم كذا.
السؤال: إذن أنت تسافر مع فلان (وذكر الوزير اسم الزميل الصديق). أليس كذلك؟
خطر بالبال أن أقول نعم ، ولكنني لم أجد الإجابة بنعم في مكانها.. قلت: لا.
قال الوزير: كيف لا؟ هو يسافر أيضا في ذلك اليوم.
قلت: نعم. لكنني لا أسافر معه. نسافر معا.
لم يجب. لم يقل: ما الفرق بين أن تسافر معه أو تسافران معا. لم يقل أنتما زميلان ولا فرق بينكما. صمت. بدا لي انه غرق في لحظة تفكير.
وشعرت بالتحسب. حدقت فيه مراقبا حذرا. نهض عن كرسيه. اتجه خارج طاولة مكتبه. جلس قبالتي على الكرسي الثاني أمام المكتب. نظر إلي بجدية وتعمق قائلا: اعتذر، أعتذر. لم أقصد الإساءة. إنما هو تعبير عفوي جرى على لساني.
أعجبني رد فعله. لم أعلق على ما قال. تابعنا حديثا عاديا عن السفر والدراسة وما يخبئه الغد لمعاون النيابة العامة الذي استقال من عمله في القضاء السوري متشوقا إلى آفاق أرحب.
إلا أن الحادثة رسخت في الذهن بما أظهرت من حكمة الوزير، ومن قدرته على تبين ما جانب فيه العدل بين زميلين، ثم من سرعته في المعالجة الصادقة المجدية. وها انذا أضع على الورق ما رسخ في الذهن من تلك الحادثة بعد أن تمتعت بروايتها مرات. ألم يكن إذن من الطبيعي أن أتساءل عمن يهتم بتراث وزير محترم للعدل هو القاضي نهاد القاسم؟.
رحم الله الوزير الأستاذ نهاد القاسم، ورحم الوزيرة الأستاذة غادة الجابي.