مختارات من الكتب
نيقولاس فان دام: التمثيل القوي لأعضاء الأقليات في حزب البعث
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا (6)
فان دام (نيقولاس)، الصراع على السلطة في سوريا- الطائفية والإقليمية والعشائرية السياسية 1961- 1995.
الفصل الثاني – ظهور الأقليات في القوات المسلحة السورية وحزب البعث
لقد لاحظنا في مقدمة هذه الدراسة أن كثيرًا من الأحزاب السياسية السورية قد عكست مصالح إقليمية، وأن مؤيدي تلك الأحزاب كثيرًا ما تركزوا في مناطق معينة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجماعات السياسية بغض النظر عن آرائها السياسية غالبًا ما تكونت من خلال قنوات إجتماعية تقليدية. والعامل الأخير بالأخص كان مسئولا إلى حد كبير عن إستمرار وجود الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية في الحياة السياسية السورية. وقد إنعكس ذلك بوضوح في حزب البعث الذي تقلد زمام السلطة في سوريا عام 1963م(1).
وبالرغم من أهداف حزب البعث الإيديولوجية والتي تضمنت إستبدال الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية بالمباديء القومية والمشاعر الإجتماعية الإقتصادية الجماعية، إلا أنه تم تأسيسه لحد كبير من خلال قنوات إجتماعية تقليدية(2). لذلك، فالوسائل المتبعة في تطويره خلال مراحله الأولى ليصبح حركة سياسية كان لها تأثير حاسم على البنية الإجتماعية لأعضائه في الفترات اللاحقة.
لقد تم تأسيس حزب البعث بدمشق عام 1940 على يد ميشيل عفلق وهو مسيحي من الروم الأرثوذكس وصلاح الدين البيطار وهو مسلم سني، وكلاهما ينتمي إلى الطبقة الدمشقية البرجوازية الصغيرة، وكانا مدرسين بمدرسة التجهيز الثانوية التي جندا منها معظم أعضاء الحزب الأوائل. ورغم أن عفلق والبيطار من دمشق، إلا أن معظم أعضاء الحزب الأوائل كانوا من المهاجرين من الريف الذين قدموا إلى العاصمة السورية لاستكمال دراستهم
وقد امتد تنظيم حزب البعث تلقائيًا من دمشق إلى مناطق سورية أخرى، دون أن يكون هناك برنامج عمل واضح ٠ واعتمد نمو التنظيم بدرجة كبيرة على المبادرات الشخصية للاعضاء الأوائل في مسقط رأسهم، مما أدى إلى تطور الحزب في بعض المناطق كجبل الدروز، حيث تمكن الحزب من حشد وتجنيد العديد من المؤيدين بشكل يفوق ما حدث في مناطق أخرى(3) .
أما في العاصمة السورية دمشق فقد كان عدد السكان الأصليين الذين إنضموا للحزب قليلاً جدًا.
وفى الواقع، لم يبذل الأعضاء المؤسسون للحزب أية جهود جدية لكسب تأييد سكان العاصمة دمشق، حيث كانوا قانعين بالنجاح الأسهل الذي حققوه في تجنيد طلبة المناطق الريفية(4).
وكتب سامي الجندي، أحد أعضاء الحزب الأوائل، يقول:
كان كل المنتسبين للحزب في دمشق من العناصر الشابة الطلابية القروية التي كانت تؤم الجامعات والثانويات بين 1940- 1955، حتى إذا انتهت عادت إلى مسقط رأسها فتوالى نشاطه. ولقد كانت الشروط الإجتماعية في الريف مؤاتية لنشوء الحزب وامتداده فتضخم فيه وظل هزي ً لا في المدن، وخاصة دمشق . ومع الزمن أصبح جسمًا كبيرًا برأس صغير(5).
وفى الماضي كانت الحركة القومية العربية دائمة الإمتزاج مع عقيدة إسلام أهل السنة . والعرب السنيون الذين كانوا يقومون بدور بارز في هذه الحركة أسندوا دورًا جوهرياً في عروبتهم للاسلام (السني)، حتى أصبح للمسلمين غير السنيين، وبالأحرى المسيحيين، منزلة ثانوية : “أتباع جبناء” لا بد لـ “رؤسائهم” (العرب السنيين) أن يتحملوهم(6).
وفى الواقع نجد أن كثيرًا من السنيين المنتمين للحركة القومية العربية كانوا يميلون لإعتبار أعضاء الحركة من الأقليات الدينية المتحدثين بالعربية “عربًا منقوصين” لإعتبارهم مسلمين غير سنيين ” مبتدعين” أو غير مسلمين على الإطلاق ٠ ومقابل هذا نجد أن الأقليات الدينية كانت تميل لإعتبار القومية العربية مجرد قناع لهيمنة السنيين المفرطة، تمامًا كما كان الحال أثناء الإمبراطورية العثمانية مع فارق واحد ألا وهو هيمنة السنيين العرب بدلا من السنيين الأتراك(7).
لقد كان لإيديولوجية حزب البعث أسس مختلفة تمامًا، فقد أراد الحزب مجتمعًا عربيًا علمانيًا موحدًا ذا نظام إشتراكي، أي مجتمعًا يتساوى فيه العرب أجمعين، بغض النظر عن دينهم ٠ ولم يكن هذا يعنى أن الإسلام أمر ثانوي بالنسبة لعروبة حزب البعث. فقد كان البعث يرى أن الإسلام يشكل عام ً لا ضروريًا لا يمكن عزله عن التراث القومي العربي. وبجانب إختلافه مع وجهات نظر السنيين تجاه العروبة، فإن حزب البعث لا يعتبر الإسلام دينًا قوميًا عربيًا فحسب، بل أيضًا تراثًا عربيًا ثقافيًا قوميًا يتوارثه كل العرب بالتساوي، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. ويرى ميشيل عفلق وهو واضع إيديولوجية حزب البعث أن العرب المسيحيين يجب ألا يشعروا بوجود ما يمنع من كونهم عربًا قوميين بأية طريقة :
فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذًا كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم(8).
ولذا كان طبيعيًا أن تستميل إيديولوجية حزب البعث أبناء الأقليات الدينية المتحدثين بالعربية بشدة. فهؤلاء أصبحوا يأملون في أن يساعدهم حزب البعث في تحرير أنفسهم من وضعهم كأقليات ومن الإطار الإجتماعي الضيق الذي تفرضه عليهم الروابط الطائفية والإقليمية والعشائرية (9).
وأخيرًا، فإن أعضاء الأقليات لا بد وقد جذبت إنتباههم فكرة إمكانية التخلص من الهيمنة السنية المدنية التقليدية على الحياة السياسية السورية، وذلك عن طريق تكوين نظام سياسي إشتراكي علماني كما يتخيله حزب البعث، خال من التعصب السياسي والإجتماعي الإقتصادي ضد من هم من غير السنيين، وبالأخص ضد أعضاء المجتمعات الإسلامية غير السنية(10) .
المصادر والمراجع:
(1) يعتبر الحزب الشيوعي السوري مثالا آخر لحزب له إتجاهات إيديولوجية، تم بناؤه من خلال قنوات إجتماعية تقليدية .ونظرًا للتمثيل القوى للأكراد فقد فشل في الحصول على تأييد واسع بين المجموعات الأخرى من سكان سوريا. ومنذ وقت قريب في أوائل السبعينات تذمر أحد قادة الحزب الشيوعي السوري من كون تنظيم حزبه قد فشل في الحصول على تأييد واسع بين أغلبية العرب بسبب “الشوفينية القومية المحدودة” لأعضاء الحزب الأكراد . انظر قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري (بيروت، 1972 )، ص 415. قارن محمد طلب هلال، دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية.
(2) قارن المادة ( 15 ) من دستور حزب البعث العربي الإشتراكي: “الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية. (بشير الداعوق، نضال البعث، المجلد الأول) الطبعة الثانية، بيروت 1970م، صـ 176
(3) شبلي العيسمي، حزب البعث العربي الاشتراكي، 1 ، مرحلة الأربعينات التأسيسية 1940 – 1949، بيروت 1979م، صـ 86-99 سامي الجندي، البعث (بيروت، 1969 )، ص 38 ؛ جلال السيد، حقيقة الأمة العربية وعوامل حفظها – صـ 394- 405، منيف الرزاز، التجربة المرة (بيروت، 1967 )، ص 158 ؛ مطاع الصفدي، حزب البعث، مأساة المولد ومأساة النهاية (بيروت، 1964 )، ص 68
R.R.Macintyre, The Arab Ba’th Socialist Party, pp. 93-100; John F. Devlin, The Ba’th Party, A History from its Origins to 1966 (Stanford, California, 1976), p. 39.
مطاع الصفدي، حزب البعث، ص 68 ، يرى أن التمثيل القوى للدروز في حزب البعث يرجع جزئياً للعلاقة الخاصة بين عفلق وبعض عائلات جبل الدروز:” كان لعفلق، بحكم انتمائه إلى عائلة مسيحية تسكن حي (الميدان) في دمشق، وتتعامل كأكثر عائلات (الميدان) مع الجنوب، أي حوران وجبل العرب (الدروز)، كان لعفلق صداقات عائلية مع بعض الأسر الدرزية ٠ وعن هذا الطريق انتقل الحزب بسرعة إلى مثقفي الدروز من طلاب الثانويات في دمشق والسويداء مركز محافظة جبل العرب.
” قارن
Van Dusen, ‘Political Integration and Regionalism in Syria’, p. 129.
(4) سامي الجندي، البعث، ص 39- 40
(5)المصدر السابق، ص 38.
(6) Sylvia Haim, Arab Nationalism, an Anthology (Berkeley and Los Angeles, 1964), p. 57; A.R.
Kelidar, ‘Religion and State in Syria’, Asian Affairs, (new series) vol. 5, February 1974, p. 22.
(7) Hourani, Syria and Lebanon, A Political Essay (third impression, London, 1954), p. 128.
(8) ميشيل عفلق، في سبيل البعث (الطبعة الثالثة، بيروت، 1963 )، ص 53,54,58. وجدير بالملاحظة أن ميشيل عفلق، وهو مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس ومؤسس حزب البعث والأمين العام الأول له، ظل طوي ً لا رمزًا للعلمانية والمساواة بين الطوائف الدينية المختلفة داخل الحركة القومية العربية البعثية. وقد اعتنق الإسلام على ما يبدو بطريقة غير علنية في أواخر أيامه ٠ فقد دفن كمسلم في بغداد، بعد أن توفى في المنفى بباريس في 23 يونيو (حزيران) 1989 عن عمر يناهز التاسعة والسبعين) . ولم تطرح قضية اعتناق عفلق للاسلام للمناقشة في ذلك الوق ت ٠ وليس واضحًا ما إذا كانت هذه الخطوة الاستثنائية من جانبه،أي، اعتناقه الإسلام في سن متقدمة، ترمز لبعض البعثيين إلى فشل العروبة العلمانية، أو أنهم اعتبروها خطوة فردية.
ومن بين العرب المسيحيين، إتخذ الروم الأرثوذكس بوجه عام موقفًا إيجابيًا تجاه القومية العربية . وبالمقارنة بمجتمعات مسيحية عربية أخرى نجد أن “هويتهم العربية” تأثرت بالكاد من تدخل القوى الأوروبية في الشئون الداخلية للإمبراطورية العثمانية. وفى عام 1917 مع ثورة أكتوبر الروسية انقطعت الروابط التقليدية بين المسيحيين من الروم الأرثوذكس وروسيا. وبعد ذلك وعقب ضياع “الحامي” الأجنبي فضل الكثير منهم الإنضمام للحركة القومية العربية.
قارن
Hourani, Syria and Lebanon, p. 144; Hourani, Minorities in the Arab World, p. 36; Biegel, Minderheden in het Midden-Oosten, p. 112.
(9) قارن محمد عمران، تجربتي في الثورة (بيروت، 1970 )، ص 8
Biegel, Minderheden in het Midden-Oosten, pp. 97-104.
هناك أحزاب سياسية سورية أخرى إجتذبت الكثير من أعضاء الأقليات إلى حد ما، بسبب إيديولوجياتها العلمانية كالحزب الشيوعي السوري والحزب السوري القومي الإجتماعي.
(10) مطاع الصفدي، حزب البعث، ص 69 ، يسوق حجة أن البعث كان في الأصل حركة طائفية ترمى إلى إستئصال النظام التقليدى الواقع تحت هيمنة السنيين ٠ فيكتب قائلا إن الأقليات الدينية وعلى رأسها العلويون ويليهم الدروز والإسماعيليون والمسيحيون كانوا “الأكثر طموحًا إلى غزو هرم المجتمع القديم التقليدي الذي تسيطر عليه طبقات المدن الإسلامية السنية في الدين” ٠ ونقدًا لوجهة نظر الصفدي بأن البعث كان يسوده أقليات دينية منذ البداية، انظر
Macintyre, The Arab Ba’th Socialist Party, pp. 93-100.
اقرأ:
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا – الفصل الأول .. المقدمة :
1- العوامل التي ساهمت في الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية في سورية
2- الإقليمية في سوريا خلال فترة الاستقلال
3- الأقليات الدينية المتماسكة .. العلويون
4- الأقليات الدينية المتماسكة .. الدروز والإسماعيليون
الفصل الثاني: ظهور الإقليات في القوات المسلحة السورية وحزب البعث
1- التداخل الطائفي والإقليمي والعشائري والإجتماعي الإقتصادي
2- التمثيل القوي لأعضاء الأقليات في حزب البعث
3- الحواجز الإجتماعية التقليدية أمام التوسع الطبيعي لحزب البعث
4- الشقاق الحزبي الإنصرافي داخل جهاز حزب البعث المدني
5- انتخابات حزب البعث المحلية عام 1965
6- أعضاء الأقليات في القوات المسلحة السورية قبل عام 1963
7- الاحتكار البعثي للسلطة في سورية 1963
الفصل الثالث: الإستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية بين السنيين والإقليات الدينية
1- التكتل الطائفي والإقليمي والعشائري في النخبة العسكرية البعثية
2- التمييز الطائفي ضد السنيين في القوات المسلحة السورية
3- فشل سياسة الطائفية العلنية كتكتيك.. إبعاد محمد عمران
4- الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية عام 1965
5- الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية عام 1966
6- التنظيم السري للقيادة القومية المخلوعة عام 1966
الفصل الرابع: تصفية الضباط الدروز ككل منفصلة داخل القوات المسلحة السورية
2- الاستقطاب الطائفي العلوي – الدرزي وإنقلاب سليم حاطوم
3- الدعاية الطائفية ضد العلويين
4- التصفيات اللاحقة لإنقلاب حاطوم الفاشل
5- تصفية الجماعات الحورانية البارزة
الفصل الخامس – الصراع على السلطة داخل الطائفة العلوية
1- التنافس بين حافظ الأسد وصلاح جديد
2- الصراع على السلطة داخل الطائفة العلوية قبل عام 1970
3- الصراع على السلطة داخل الطائفة العلوية بعد عام 1970
الفصل السادس – الشقاق الحزبي الطائفي والإقليمي في نخبة السياسيين السوريين: تحليل إحصائي
1- تحليل إحصائي لمؤسسات السلطة السياسية السورية 1961- 1995