شهادات ومذكرات
جلال السيد: ما هي علاقة زكي الأرسوزي بـ”حزب البعث”؟
تحدث جلال السيد عن تفاصيل علاقة زكي الأرسوزي بـ”حزب البعث” بالإضافة إلى تفاصيل مهمة عن حياة زكي الأرسوزي.
وكتب السيد في كتابه “حزب البعث العربي” حول تلك العلاقة ما يلي:
(راجت في الآونة الأخيرة مقالة تزعم أن الحزب قد أسسه المرحوم زكي الأرسوزي وأن الأسم من وضعه الخاص، وأن الفكرة برمتها قد انطلقت منه. فما هو واقع الحال وما صحة هذا الزعم؟
وللرد على هذا التساؤل لابد لنا من المرور بالسيد الأرسوزي ولا سيما من الجهات ذات المساس بهذا الموضوع.
ولكن قبل ذلك لابد أن نعلن أن السيد الأرسوزي لا علاقة له بحزب البعث. وأنه لم يشترك في التحضير له ولم يكن مطلعاً حتى مجرد إطلاع على المباحثات التي جرت بيني وبين السيدين عفلق والبيطار بشأن تأسيس الحزب.
وأذكر أن السيد الأرسوزي قد شاهدنا نحن الثلاثة خارجين من فندق الشرق وكان هو غير متعاطف مع السيدين المذكورين، وإنما يرتبط معي بصداقة متينة مذ كان مدرساً في ثانوية دير الزور في الثلاثينيات. وقد اقترب مني وسألني عن رفيقي وعن علاقتي بهما، فأخبرته أننا ندرس موضوع إنشاء حزب عربي شامل، ونحن لا نزال في الأطوال الأولى من البحث. فقال معلقاً: لا بأس برفيقيك فانهما لم يصبحها شيوعيين. ولم يزد على ذلك، ولم يسألني عن الحزب شيئاً.
وقد كنا في بحوثنا عن مبادئ الحزب وعناصر الحزبيين نعرض بعض الأسماء من المواطنين السوريين وسائر العرب. وكان يرد اسم السيد الأرسوزي ولكنه كان يستعبد عن البحث باعتبار أنه تكون تكويناً قطعياً، وأنه لم يدخل لمعاني الاشتراكية في فلسفته السياسية، وأنه أقرب إلى التفكير النازي بل أنه أقرب إلى التفكير الروماني في تقسيم الناس إلى عبيد وسادة، فهو يقسم الناس إلى طبقتين : النبلاء والإنذاب. وهو فوق ذلك صعب الانضباط، عسير التنظيم. ومع أن عاطفته القومية متأججة فإنه شديد الوطأة على الذين لا يرون رأيه في الحياة. فهو لذلك منفّر بدل أن يكون سبيل تجميع واصطفاء والتفاف. وكانت نظرتنا منذ الأساس إلى المواطنين أنهم يحتوون كل عناصر النبل والشرف وأن كل ما يظهر عليهم خلاف ذلك فإنما هو بعوامل عرضية وقتية زائلة وأن قليلاً من الصقل والمعاناة للإنسان العربي تعيده إلى معدنه الشريف، بينما كان الأرسوزي يرى أن أكثر من نصف الشعب سافل وكان يعبر عن هذا بكلمة فرنسية “Läche” . وبالجملة فإنه كان ارستقراطي الفكر ينظر إلى الناس من -فوق- بينما كنا ننظر إلى الناس من مستواهم ومن بينهم، ونعتبر أنفسنا جزءاً منهم نحمل كل صفاتهم الخيرة والسيئة.
وهذا لا ينفي أن السيد الأرسوزي قد كان يمضغ ويردد كلمة ” البعث” منذ كان مدرساً في دير الزور، وكان يقترح تأسيس حزب بهذا الأسم الذي هو ترجمة حرفية لكلمة “رينسانس” التي تعني الولادة الثانية “نهضة”. وكان هذا كله في حدود البحث النظري المجرد. ولم يتخذ الأرسوزي ولا خطوة واحدة عملية في سبيل إنشاء حزب سياسي على الطراز الذي قام عليه حزب البعث في مابعد.
جناج الأرسوزي
وبمناسبة ذكر السيد الأرسوزي وقبل حلول مرحلة البحث التفصيلي في عناصر الحزب فإننا نستبق الوقت ونسجل أنه كان في حزب البعث جناح للأرسوزي. وأعني بالجناح فئة من الشبان انتسوا إلى الحزب ولكنهم كانوا متأثرين بمنهج الأرسوزي، مطبوعين بأفكاره، مترسمين خطاه، ومقلدين له بالإرادة والعفوية في كثير من المسالك والأفكار.
هؤلاء الشبان كانون طلاباً للسيد الأرسوزي وقد استهواهم بحديثه الطلي وعمق نظره الفلسفي في ميدان ” ماوراء الطبيعة”، وقوته على التشبيه والتمثيل وسرعة خاطره وحضور بديهته ثم في عاطفته القومية الملتهبة والتي هي موجهة بالإرادة والتصميم إلى أن تكون عاطفة عربية.
وأعني بكلمة موجهة بالإرادة أنها ليست مشاعر منطقلة من النفس وإنما أوحى بها العقل واتخذ منها ما يشبه الزينة والزخرف يومذاك. وقد حدد عاطفته القومية وجعلها عربية، الصراع الذي احتدم في لواء الإسكندرونة بين الفئتين العربية والتركية.
ذاك أن تكوين السيد الأرسوزي ونشأة صباه قد كانا ضد الأتراك لأسباب قومية وطائفية. فالسيد الأرسوزي يعتبر من أهل المذهب الحنفي كله اتراكاً. وهو يمزج بين نسب الإمام والإتباع. ومادام أبو حنيفة فارسياً فإن اتباعه كذلك يجب أن يكونوا من الفرس أوالأتراك أو من سائر الأقوام المسلمة من غير العرب. وأن اتباع الأئمة الاخرين هم العرب مادام ائمتهم من العرب. هكذا كان السيد الأرسوزي يعالج الأمور التاريحية والعلمية والاجتماعية. وهذا العلاج تتحكم فيه العاطفة الجياشة والحماسة القومية حتى تعطل فيه المنطق والواقع والمعقول أحياناً. وأن الفئة البعثية التي قلنا انها تؤلف الجناج الأرسوزي تسير هي ايضاً على هذا المنوال في النظر إلى الأمور. وغالب هذه الفئة هي من اللوائيين. وقد انضم اليها طلاب من غير اللوائيين. والف الجميع (عقدة) داخل حزب البعث عرفت بقسوتها وشدتها ومرارة نقدها للأخرين تماماً كما هو أسلوب الارسوزي.
زعزز مركز الأرسوزي في هذه الفئة النشاط الذي قام قام به والجهد الذي بذله في الاستفتاء حول عروبة الاسكندرونة، فقد كان الأرسوزي قائد الجبهة العربية المكافح عن عروبة اللواء. وقد استطاع أن يضم إلى الجبهة العربية أكثر الطوائف من غير الأتراك كالأرمن وسواهم.
ويمكن القول بوجه من الوجوه ان تضامن الجبهة التي يرئسها الأرسوزي في اللواء كان له دافع عميق آخر غير المدافع السياسي والقومي. ذاك هو الدافع الطائفي. فالأتراك معروفون في سلوكهم العنيف ضد الطائفة العلوية، والكراهية كانت مستحكمة بين الفئتين السنية والعلوية. وهذه المشاعر العفوية قد سهلت مهمة الأرسوزي في تكوين الجبهة المضادة للأتراك مما جعل منه قائداً شعبياً مرموقاً في تلك المنطقة من الوطن العربي.
وسنتكلمّ تفصيلياً أكثر عن الجبهة الأرسوزية في حزب البعث عندما نعرض لنوعية الفئات التي تألف منها الحزب).
اقرأ:
جلال السيد: ميشيل عفلق يتحدث عن صلاح البيطار
ميشيل عفلق وجلال السيد أمام مكتب حزب البعث بدمشق عام 1947م