شيخ وقور، يحيط به الجلال، ذرّف على الثمانين، التي يأخذ نفسه بها رغم فقده البصر، لأنها عنده احترام للآخرين. تجالسه طويلاً فيلتزم الرزانة في جلسته، فلا يضع رجلاً فوق أخرى، ولا يحرك يديه إلاّ نادراً. يعجبك صامتاً، فإذا تكلّم نقلك على جناح طائر في ميادين خبرته الرحبة، فمن الوطني إلى القومي، فالسياسي، فالاجتماعي، وتتمثل عندها قول الشاعر وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم فالمهابة تحيط في سكوته، والجلال يلّفه عندما يتحدث، فيأسر السامع بلغته الفياضة بالحب لمدينة “الرقة” وأهلها، وبفيض معلوماته، وسعة إطلاعه، وثقافته الواسعة.
ذاك هو الوزير والنائب في البرلمان السوري الأستاذ “حامد الخوجة” عليه رحمة الله». بهذه العبارات الفياضة بالحب والوفاء، يتحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (16/6/2009) الدكتور “عبد الجليل عبد الرحمن العلي”، عميد كلية الآداب في “الرقة”، عن وزير “الرقة” ونائبها “حامد الخوجة”، الذي أثرى الحياة النيابية والوزارية، منذ أن انعقد له لواء النيابة في البرلمان السوري في ثمانينيات القرن العشرين، واستمر لخمس دورات نيابية، تخللها تنسمه لوزارتين الأشغال العامة والزارعة، وتكليفه بتشكيل وزارة، لم يتسنَ لها أن ترى النور، واضطلاعه بدور أساسي أولاً في إجهاض حلف “بغداد”، وثانياً في قيام الوحدة بين سورية ومصر عام /1958/.
ويتابع “العلي”، قائلاً: «انعقدت بيني وبينه صداقة في تسعينيات القرن العشرين، بذرتها صلة القربى، هو من أضاف إليها المودة التي تجعل القربى صداقة.
كان يعلمني بوصوله “الرقة”، فأخف إلى مجلسه الحافل بالصورة التي عرضتها قبل قليل. وأستمتع بعذب الحديث، الذي يقدم حوادث يستحضرها من خبرته الهائلة، يعينه على ذلك ذكاء حاد، وذاكرة متقدة». ومن طرائف حياته النيابية، يذكر “العلي”: «ومن طريف ما سمعته في مجالسه أن البرلمان السوري ذات مرة في خمسينيات القرن العشرين، ناقش مطولاً الموافقة على تبديل إطارات السيارة المخصصة للسيد رئيس الجمهورية، ولعلّه “شكري القوتلي”. وأن نائباً من “الزبداني” رأى سيارة الدولة تقل عائلة رئيس المجلس النيابي خارج أوقات الدوام الرسمي، في اليوم الثاني طلب هذا النائب من رئيس البرلمان التنحي عن رئاسة الجلسة لاستجوابه، فتنحى وبعد الاستجواب، اعتذر رئيس المجلس عن خطئه، قائلاً: سامح الله النساء وإلحاحهن.
ومنه عرفت حكاية شراء جسر “الرقة” القديم من الحكومة الإنكليزية بمئة ليرة ذهبية، أُقر ذلك بجلسة كان أمين سرها. وعندما أجّل “خالد العظم” رحمه الله قرار أن تكون “الرقة” محافظة، احتج على ذلك، وتغيب عن المحافل الرسمية حتى تم الاتفاق على اتخاذ القرار بتسمية “الرقة” محافظة بشكل رسمي».
ومن طريف السياسة الذي يحفظه عن “الخوجة”، يتحدث “العلي” متابعاً: «كلّفه الرئيس “أديب الشيشكلي” برئاسة الوزارة، وبعد يومين استدعاه إلى القصر الجمهوري، وقال له: يا “حامد” إنني مضطر إلى مغادرة سورية، فتكليفك انتهى، ونسِّق مع زملائك النواب لقيادة البلد، فحاول ثني “الشيشكلي” عن الرحيل، فقال له: أنذرتني السفارة البريطانية بالخروج، وإلاّ سيحتل الجيش الإنكليزي سورية، وعندها يضيع الاستقلال المعمد بدم الشعب السوري، أما إذا رحل “أديب، ففي سورية المئات مثل “أديب”، وهنا علّق “الخوجة”: إن هذا موقف وطني أحتفظ به لـ”أديب الشيشكلي”.
وكثيراً ما كان يقارن بين الوضع القلق الذي عاشته سورية في ظلِّ الانقلابات العسكرية المتلاحقة، وبين الاستقرار الذي تحقق لها بعد ثورة آذار عام /1963/». وعن الحكومة التي شارك فيها كوزير للزراعة، والتي ساهمت بإسقاط حلف “بغداد”، يقول الفريق “عفيف البزري” في دراسته المعنونة: “سورية تجمّد حلف بغداد”: «سقطت وزارة “فارس الخوري” في السابع من شباط /1955/. وتم الاتفاق في نهاية المطاف بين الكتل النيابية لـ”خالد العظم” و”البعث”، وشطر “الحزب الوطني”، بقيادة “صبري العسلي” على تشكيل وزارة تقف ضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية.
وتم تشكيل هذه الوزارة في الثالث عشر من شباط عام 1955 على الشكل التالي: “صبري العسلي” للرئاسة والداخلية، “خالد العظم” للخارجية والدفاع، “عبد الباقي نظام الدين” للأشغال العامة والمواصلات، “رئيف الملقي” للتربية الوطنية، “حامد الخوجة” للزراعة، “فاخر الكيّالي” للاقتصاد الوطني، “ليون زمريا” للمالية، “مأمون الكزبري” للعدلية، “وهيب غانم” وزير دولة.
وأعلنت هذه الوزارة شجبها لحلف “بغداد”، الأمر الذي أدى في النتيجة إلى عزل هذا الحلف وتكليسه ثم سقوطه نهائياً بثورة الرابع عشر من تموز التي نسفت مدرسة عملاء الإنجليز في العراق».
ويرصد لنا الباحث الدكتور “محمود النجرس” حياة “الخوجة”، بقوله: «ولد “حامد الخوجة” في عام /1904/م، وهو ابن “الحافظ إبراهيم بن محمود بن إبراهيم بن علي”، الذي هاجر من مدينة “أورفة” التركية إلى “الرقة” في أواخر القرن التاسع عشر، حيث عمل معلماً في مدرستها الوحيدة، وهي المدرسة “الرشدية”، التي افتتحت بالتزامن مع بناء “الجامع الحميدي” سنة /1897/، و”الخوجة” كلمة تركية تعني “الشيخ”، وهو لقب التصق بالعائلة، نتيجة عمله بتعليم أصول الدين واللغة العربية، و”آل الخوجة” رغم أنهم هاجروا من “أورفة”، إلاّ أن أصولهم تعود إلى مدينة “دير الزور”، من عشيرة “البو خريص”، وهي من العشائر الأساسية، ولهم مكانتهم هناك، وقد برز منهم مجموعة كبيرة من الشخصيات الكبيرة التي أثرت الحياة السياسية والاجتماعية في وادي الفرات».
ويتابع “النجرس” في ذات السياق، قائلاً: «نشأ “حامد الخوجة” في بيئة دينية، وقد لعبت “أورفة” المدينة التي نشأت فيها أسرته دوراً كبيراً في حب أبيه للعلم والمعرفة، فهي من الحواضر التي لم تنقطع فيها الحياة، وكانت مركزاً من مراكز الإشعاع الحضاري عبر التاريخ، وعندما جاءت الأسرة إلى “الرقة”، كان “الحافظ إبراهيم” والد “حامد الخوجة” مديراً أو مدرساً في المدرسة “الرشدية”، وبقي في هذا المنصب إلى أن عٌين مفتياً خلفاً لمفتي “.
اقرأ:
الشيخ خلف الحسان – شيخ عشيرة البوعساف .. شخصيات في ذاكرة الرقة
الأديب خليل الحميدي .. شخصيات في ذاكرة الرقة
محمد وهبي العجيلي .. شخصيات في ذاكرة الرقة
المحامي عبد المجيد الجدوع – رجل المواقف .. شخصيات في ذاكرة الرقة