أعلام وشخصيات
عبد اللطيف بادنجكي
الشيخ عبد اللطيف بادنجكي
ينتسب هذا الرجل إلى الدوحة البادنجكية ، وهي أسرة عرفت بالتقوى والصلاح ، وورثـت ذلك كابراً عن كابر ، والسلسلة القريبة لنسب الشيخ الذي نتحدث عنه هي :
عبد اللطيف بن إسماعيل بن عبد اللطيف بن محيي الدين بن سعيد البادنجكي .
هذا الجد ـ كما جاء في كتاب ( إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ) للشيخ راغب الطباخ هو سعيد بن عبد الواحد النبهاني المشهور بالبادنجكي ، والأصح : بالميدانجكي نسبة إلى ميدان جك ، وحرفها الناس من ميدانجكي إلى بادنجكي .
يذكر الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله أن الشيخ سعيد سلك طريق التصوف على إمام الطريقة الخلوتية القادرية الشيخ إبراهيم الهلالي الدارعزاني ، وعنه أخذ الطريقة الخلوتية القادرية ، وصار يقيم الأذكار في جامع ميدانجك ، وحين كثر أتباعه ومحبوه انتقل بعد سنين إلى المدرسة الطرنطائية في محلة ( محمد بك ) بباب النيرب ، وصار يقيم الذكر فيها .
جلس على السجادة البادنجكية في الطرنطائية ثم خلفه ولده الشيخ محيي الدين بن الشيخ سعيد ، وصار يقيم الذكر كأسلافه بعد عصر كل خميس ، كما أخذ العلم عن كبار الشيوخ في عصره ، فأخذ الفقه والحديث والتفسير والفرائض والحساب والنحو عن الشيخ أحمد الترمانيني والشيخ عمر بن السيد محمد بن شيخ أفندي ، والشيخ مصطفى بن محفوظ الريحاوي ، وجاور في المدرسة القرناصية خمس سنوات ، وكان يقرأ العلوم على طلبته ومريديه لا يريد منهم مناً ولا شكوراً ..
وتوارث القعود على السجادة البادنجكية أبناؤه ، ثم آلت إلى الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ إسماعيل فإلى ولده الحاج محمد ، ويجلس ولد الحاج محمد الشيخ عبد اللطيف عليها اليوم .
عاش الشيخ عبد اللطيف فقيراً ، وكان يشتري المسابح ذات المئة حبة بعشرة قروش ، فيقسمها إلى ثلاثة مسابح ويبيع الواحدة بعشرة قروش ، ويشتري بما ربح من هذه العملية حصيرة لجامع ، أو لوح بللور لمسجد ، أو إبريقاً للوضوء أو للطهارة ، أو يصلح باباً لمسجد وهكذا .. كما عمل في مطلع شبابه أجيراً عند عطار زمناً ، وحين رأى العطار أمانته رغب بمشاركته على نسبة معينة ، ثم خطر للعطار أن يبيعه دكانه لرغبته في السفر والإقامة ببلد زوجته ، فاشتراه منه ودفع له ثمنه تقسيطاً ، ثم بدا للشيخ عبد اللطيف أن يشتري مخزناً في محلة السويقة من الحاج موسى الأميري جد الشاعر الإسلامي الكبير المعروف فكان له ذلك ، ثم أتبعه بمحلات عدة ومن جملتها المخزن الكبير الملاصق لجامع الخير وجعل أبناءه وإخوته وأعمامه وآل البادنجكي فيها ، وتخصصوا جميعاً بتجارة الأدوات المنزلية ، ولا تزال الأسرة على هذه المهنة إلى يومنا هذا .
كان الشيخ عبد اللطيف باراً بأبيه براً ليس له مثيل ، إذ كان يقبل يده صباحاً ومساءً ، ويطلب منه الدعاء ، فيرفع الأب يديه وعمته ويقول : الله يرضى عليك ، ومحمد يرضى عليك ، والعرش والكرسي والسماوات والأرض ترضى عليك ، تمسك التراب ينقلب ذهباً بين يديك ..
وكأن الله تعالى استجاب دعوة أبيه الشيخ إسماعيل فكان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر ، وكان كلما ازداد سخاء زاده الله عطاء . وفي ذلك تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً
من أعمال الشيخ عبد اللطيف :
– كان يتكفل بتجهيز موتى الفقراء ودفنهم ، وقد تبرع بعدد من سيارات الصهريج لا يقل عددها في اليوم الواحد عن ثماني سيارات ، ومهمتها نقل الماء إلى سكان الأحياء النائية التي لم تصل إليها ماء مؤسسة المياه .
– كان منظر الفقراء في كل صباح أمام مخزنه لا ينساه أبناء حلبَ الشهباء ، كلُّهم ينتظرون منذ انبلاج الفجر قُدومَ الشيخ عبد اللطيف إلى مخزنه .. فهذا مريضٌ يريد أن يأخذه الشيخُ عبدُ اللطيف إلى طبيب ليعـاينه ، وذاك إلى مَخبرِ تحليلٍ ليُحلَّلَ له ، لأن الطبيب طـلب منه إجراءَ بعض التحاليل ، وذاك يحتاج إلى عملية جراحية لا يملك تكاليفها ، وآخرُ ما عنده ثَمن دواء كتبه له الطبيب ، ورجلٌ لا يملك ثَمنَ طعام لعياله ، ورجلٌ له معاملة مستعصيةٌ في دوائر الدولة ، وآخر ، وآخر .. كلُّهمْ بأمَسِّ الحاجَة ، وكلُّهم يرون أملَهم بالشيخ عبد اللطيف .
– وتشرئب أعينهم وأعناقهم بمجرد اقتراب سيارة الشيخ من المخزن ، وتعلو أصواتهم بالدعاء له من صميم قلوبهم .
– ويبتسم الشيخ ، ويسلِّم عليهم فرداً فرداً ، ويسمع طلباتِ كلٍّ منهم ، ويَـعِدُه بتحقيق ما يُمكنُ تَحقيقُه ، ونَيْلِ ما يُمكن نَـيْلُه، مستعيناً بالله عز وجل ، ويطلب منهم الدعاءَ وتيسيرَ الله للأمور ، وعونَـه على قضاء حاجة كل محتاج .
– ويحشر الشيخ كل صباح من هؤلاء ما اتسـعت سيارتُه ، ويطلب من الباقيـن انتظارَ عودته ، وينطلق بهم إلى الأطباء ، والمستشفيات ، والمخابر ، والصيدليات ، والدوائر ، ثم يعود إلى الفوج الثاني الذي ينتظر ، فيفعل بهم ما فعل بالفوج الأول ، .. وهكذا يُمضِي أكثـرَ النهار، من طبيب إلى طبيب ، ومن مستوصف إلى مستوصف ، ومن مكان إلى مكان حتى إذا لم يبق أحد، وقضى حاجة الجميع ، عاد إلى مخزنه الذي يصرِّف أولادُه أموره فقعد يستريح قليلاً ، ويشكر الله الذي مكنه من قضاء حاجات الناس ، ويتذكر على الدوام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : قضاء حاجة لأخيك يوماً خير من اعتكافك شهراً عند الحجر الأسود وفي بيت الله الحرام . . ويؤمن أن لله عباداً يختصهم بقضاء حوائج عباده ، يفزع الناس إليهم في حوائجهم ، أولئك هم الآمنون يوم الفزع الأكبر ، فإذا ملوها نقلها إلى غيرهم ، ثم ينطلق من جديد إلى مركز الدائرة ، إلى حبيبه الأكبر الشيخِ نجيبٍ سِراجِ الدين ، ومن بعدِه إلى خلَفه العلامة الكبير وكوكبِ حلبَ الساطعِ الوهاجِ ولدِه الشيخِ عبدِ الله سراج الدين يعُبُّ من بحر العسل ، وينتشي بالنفحات الروحية ، ويعطرُ روحَـه بأريج الحب العظيم .
وصف جنازة الشيح عبد اللطيف بادنجكي:
ويوم مات الشيخ عبد اللطيف أغلقت حلب الشهباء كلُّها حوانيتَها ، وانطلق الناس جميعاً والدموعُ تَملأ عيونَهم إلى حضور موكب الجِنازة ، والاشتراكِ في تشييع أميرِ الفقراء ، وسَرَتْ في المدينة من أقصاها إلى أقصاها عبارةٌ واحدة : لقد مات أميرُ الفقراء ، لقد مات أبو الفقراء ، وكان الرجل الذي يسمع العبارة يَعجَبُ ولا يكاد يصدق ، كأنه ليس من طبيعة الدنيا أن يَموت الأخيار ، ولا أن يُدفَن تحت التـراب أمير الفقراء ، وأبوهم ، وخادمهم ، وحبيبهم ، وقاضي حاجاتهم .
وأذكر يوم عدنا من التشييع كانت الأرض التي مرت عليها الجنازة مبلولةً بالماء ، كأن السماء صبَّت عليها الماء المنهمر ، ولكن الحقيقة لم تمطر السماء ، ولا هطل المطر ، ولكن دموع الناس جميعاً كانت هي التي بلت الشوارع(1) .
(1) باسل عمر حريري،الموسوعة التاريخية لأعلام حلب