مختارات من الكتب
مروان حبش: حركة 23 شباط – انتصار منطق الحسم العسكري والتنفيذ (10)
من كتاب البعث وثورة آذار
جاءت الحلول الفوقية والبعيدة عن أي منطق حزبي، ولا هدف لها إلا تحقيق الرغبة في المجابهة والمجابهة فقط، فقد اتخذت القيادة الحزبية قراراً بنقل الرفيقين سليم حاطوم وعزة جديد من قطعتيهما العسكريتين من جهة، ومن جهة ثانية تهديد كل من يحضر الدورة الاستثنائية للمؤتمر القطري، الواجب عقدها وفق أحكام النظام الداخلي بتاريخ 25 شباط 1966، بالطرد من الحزب والاعتقال، وهذا يعني الوصول إلى نهاية الشوط في إبعاد الرأي الآخر والتخلص منه، ومن جهة ثالثة، كان كل من الفريق أمين الحافظ واللواء عمران يحشد مؤيديه للقيام بانقلاب لصالحه، ومن جهة رابعة ، كانت القيادة تخشى من انتقال المجادلة اللفظية والتحديات الكلامية إلى الاقتتال العسكري داخل القطعات في حال تأخر حسم الأزمة.
بعد أن وصل كل أعضاء القيادة إلى نتيجة مآلها أن الحل الوحيد المتبقي أمام القيادة هو العمل العسكري لإنقاذ الحزب والثورة والمحافظة على مصيرهما ، وهو وإن كان حلاً غير نظامي ومخالفاً لتقاليد الحزب الديمقراطية إلا أنه يأخذ مبرراته من التزامه المطلق بمقررات مؤتمرات الحزب والنضال الصادق لتنفيذها، ومن العزم على إحلال الرابطة القومية مكان جميع الروابط الإقليمية والطائفية والعشائرية، ومن الفهم الواضح للثورة بأنها إدراك دقيق للمصالح الأساسية للشعب واستشفاف كل ما يمكن أن يدعم هذه المصالح.
كانت القيادة القطرية المؤقتة، بعد اختيار الحسم العسكري، قد وافقت على ترشيح الرفاق العسكريين من أعضاء القيادة المؤقتة، لكل من اللواء حافظ الأسد لتولي مهام وزير الدفاع، ورغب أن يكلف بتسييرها، والعقيد أحمد سويداني لمنصب رئيس الأركان بعد ترفيعه، يوم الحركة، إلى رتبة اللواء.
اجتمعت القيادة القطرية المؤقتة ليل يوم 16 شباط 1966 في منزل عضو القيادة فايز الجاسم، وفي هذا الاجتماع، أعيد تقييم الوضع في الجيش والقطاع المدني وكانت النتيجة ذاتها، أي أن الوضع يميل بشكل كبير لصالح القيادة وتقرر القيام بالعمل العسكري في الليلة نفسها، وكلف الرفاق العسكريون بإجراء اتصالاتهم، كما كلف الرفاق المدنيون بكتابة مشروع بيان يوضح سبب اللجوء إلى اختيارالعمل العسكري على أن تجتمع القيادة ثانية الساعة العاشرة ليلاً في المكان نفسه، ولقد تم كتابة البيان الذي سيذاع على الشعب، كما كتب بيان آخر موجه إلى الحزب في الوطن العربي .
في الاجتماع الثاني من الليلة نفسها تبين أن هناك صعوبة في تهيئة اللواء المرابط في حمص في هذه الليلة نظرا لعدم إمكانية تبليغ الرفاق العسكريين في هذا الوقت الضيق، لذا تم تأجيل التحرك العسكري، وحسم الأزمة إلى وقت لاحق، على أن:
– يقوم أعضاء القيادة القطرية المؤقتة، وبشكل إفرادي أيضا، بزيارة الأمين العام للقيادة القومية وبذل المساعي الأخيرة معه، عسى أن يقتنع بضرورة العودة إلى حل الأزمة، عن طريق المؤسسات الحزبية ذات الاختصاص.
– تكثيف الاتصال بقيادات فروع الحزب المدنية والعسكرية، ومع قيادات المنظمات الشعبية، لمعرفة وجهة نظرها في حل بديل، بعد فشل كل محاولات الحل عن طريق المؤسسات الحزبية.
كنت ممن زار الأمين العام في منزله، وفي غرفة مكتبه، تحدثت إليه مبيناً له مخاطر الإقدام على ما تنويه القيادة القومية، وأن المراد تصفيتهم، وفق منظوره، يعتبرون الحزب حزبهم، ولا يسمحون العبث بمصيرهم إلا من خلال المؤسسات الحزبية ذات الصلاحية في حل الأزمة.
أصرّ الأمين العام على آرائه ذاتها، والتي تهدف إلى التصفية، وكان كل الرفاق القياديين الذين اجتمعوا معه، يؤكدون وجهة نظر القيادة القطرية المؤقتة ويحمّلونه، بصفته الأمين العام، المسؤولية الأكبر عما يمكن أن يحدث (19).
توزع بعض الرفاق أعضاء القيادة مهام الاتصال بالفروع، وقمت أنا والرفيق مصطفى رستم يومي الاثنين والثلاثاء ، 21-22 شباط، بزيارة إلى محافظتي حماة وحمص، وفي حماة تم تبادل الرأي مع الرفاق في قيادة فرع الحزب، ونوقشت الأزمة من كافة مناحيها، كما نوقش الوضع في الحزب والسلطة مطولاً ،وتم اطلاعهم بكل الاتصالات والجهود التي بذلت حتى الآن وبالطريق الذي أصرت القيادة القومية على سده نهائياً أمام الحلول المقترحة وأدرك الرفاق في قيادة فرع حماة التوجهات البديلة المحتملة للقيادة.
وفي حمص أطلعْنا الرفيق نور الدين الأتاسي (كان الدكتور نو الدين قد استقر في حمص منذ أن قبلت القيادة قرار الحل) على كل ما قررته القيادة، وأبلغنا تأييده المطلق لأي إجراء تقوم به، واقترحنا عليه التعرف إلى وجهة نظر الرفاق القياديين في فرع حمص.
عدت أنا والرفيق مصطفى إلى دمشق، ووصلنا حرستا حوالي الساعة الخامسة مساء، وبالصدفة التقينا بالرفيق سليم حاطوم ـ عائداً من ثكنته، فاستوقفَنا وأبلغنا عن اجتماع سيعقد الساعة الثامنة مساء في بيت الرفيق جميل شيا الواقع في شارع المالكي.
اجتمعت القيادة بكامل أعضائها في الوقت المحدد، وعرض كل رفيق نتائج اتصالاته، وتم تقدير الوضع حزبياً وشعبياً وعسكرياً، كما تم توضيح سوء الحال الذي آلت إليه الأمور، وخاصة بعد صدور قرار نقل الرفيقين عزة وسليم، وتقرر بالإجماع ضرورة الحسم العسكري بعد منتصف هذه الليلة الأربعاء 22-23 شباط ووقّع كل أعضاء القيادة على قرار الحسم العسكري.
تم تكليف الرفيقين عزة وسليم بتنفيذ المهمة في دمشق، وتحريك قطعاتهما لمحاصرة قصر الضيافة الذي حشد فيه الفريق أمين الحافظ عدداً كبيراً من العسكريين وكمّاً هائلا من الأسلحة، وقصر الروضة، وهو المقر السكني للفريق أمين الحافظ، ومبنى الشرطة العسكرية.
كما تم تكليف الرفيقين حافظ الأسد وأحمد سويداني تبليغ قرار القيادة إلى الرفاق في القطعات العسكرية، وتكليف الرفيق محمد رباح الطويل بمؤازرة الرفيق أحمد المير محمود قائد اللواء السبعين وفق الخطة المقررة، وتكليف الرفيق محمد الزعبي السفر إلى السويداء لتبليغ آمر اللواء هناك بقرار القيادة، وتكليف الرفاق أحمد سويداني ومحمد عيد عشاوي ومصطفى الحاج علي، الدخول حين بدء التحرك إلى مكتب وزير الدفاع اللواء محمد عمران– كان ينام ليلياً في المكتب رغم تقديمه استقالته إلى القيادة الحزبية الموسعة- وجميل شيا الدخول إلى مبنى الإذاعة بالتعاون مع حراسها من سلاح المغاوير، ومروان حبش الدخول إلى مبنى القيادة القطرية في نهاية شارع المالكي مقابل التمثال، واللواء حمد عبيد الذهاب إلى القطعات في قطنا، واالمقدم مصطفى طلاس الدخول إلى اللواء المدرع الخامس في حمص، والعقيد عبد الكريم الجندي الدخول إلى معسكر القطيفة، وتقرر عدم الموافقة على الطلب الملح للرفيق صلاح جديد الدخول إلى اللواء سبعين، للحاجة إليه في مقر تواجد القيادة القطرية المؤقتة.
انفض الاجتماع وانطلق كل عضو من أعضاء القيادة للقيام بما كُلف به بينما بقي البعض الآخر في المنزل، حتى الموعد المقرر للتنفيذ (20).
بقي في المنزل كل من الرفاق صلاح جديد، إبراهيم ماخوس، فايز الجاسم، مصطفى رستم، وفي الساعة المحددة للتحرك وصلت قوات المغاوير بقيادة الرفيق سليم حاطوم أولاً، تبعتها قوة مدرعة بقيادة الرفيق عزت جديد، وكانت التعليمات صارمة وواضحة بعدم إطلاق النار إلا دفاعاً عن النفس، ولكنّ قوات المغاوير فوجئت بإطلاق نيران غزير جداً من مبنى قصر الضيافة ومبنى وزارة الخارجية، مما أوقع عدداً من الضحايا لم يكن في الحسبان، وتبين أن الفريق أمين الحافظ قد كدس كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة وحشد عدداً من الجنود يفوق مرات ومرات ما يحتاجه لحراسته، وربما كان سيستخدمهم في تحركه العسكري، والشيء ذاته كان في مقر سكنه ولذلك اضطرت المدرعات إلى إطلاق مدافعها لإسكات مصادر النيران في قصر الضيافة ومنزل الفريق أمين الحافظ، مما أدى إلى إصابة بعض أفراد أسرته بجروح بسيطة.
ونفذت المهمات الأخرى التي كُلف بها بقية الرفاق، دون أية عوائق أو مقاومة تذكر، ودخل الرفاق سويداني، عشاوي، الحاج علي مكتب وزير الدفاع بعد استئذانه بالدخول، وأدرك اللواء عمران ما حصل وكان ذلك متزامناً مع تحرك القوات، وبادرهم قائلاً: نصحناهم (أي أعضاء القيادة الموسعة ) بعدم إجراء تنقلات وحذرناهم من العواقب ولكنهم أصروا على ذلك.
قمت بدوري، بالدخول إلى مبنى القيادة القطرية، وبعدها قمت بجولة في شارع (أبو رمانة) والتقيت مع الرفيقين عزة وسليم اللذين كانا لا يزالان يصدران الأوامر إلى قواتهما لإسكات مصادر النيران، وأبلغاني بأنهما يأملان بعد وقت قصير بانتهاء العملية.
عدت إلى منزل جميل شيا وأخبرت الرفيق صلاح جديد وبقية الرفاق بذلك، وبعد قليل غادر الرفيق صلاح المقر إلى مبنى وزارة الدفاع بناء على طلب الرفيق حافظ الأسد والرفيق أحمد سويداني، لمساعدتهما في الاتصال مع القطعات العسكرية ولأن بعض الرفاق في هذه القطعات يريدون سماع صوته وتلقي الأوامر منه.
كانت الهواتف مفصولة من مركز الاتصالات عن منطقة أبو رمانة والمالكي، حيث يقع مبنى القيادة القطرية، بناء على تعليمات الأركان العامة، فاتصلتُ بالهاتف الرباعي مع الرفيق صلاح وطلبت منه إصدار الأوامر لإعادة الربط الهاتفي ليتسنى لي الاتصال مع قيادات الفروع، وما أن انبلج الفجر وأذيع البيان في النشرة الصباحية الأولى حتى بدأت هذه القيادات إعلامي عن تأييدها للحركة.
كانت القيادة القطرية المؤقتة قد قررت إذاعة بلاغ باعتقال عدد من القياديين: أمين الحافظ، ميشيل عفلق، منيف الرزاز، محمد عمران، منصور الأطرش، صلاح البيطار، شبلي العيسمي، وذلك تفادياً لوقوع أي صدام عسكري بين الرفاق أو التقليل من احتمالاتهـا، كما نص البلاغ ذاته على أن المعتقلين سيقدمون للمحاكمة أمام محكمة حزبية خاصة لمحاكمتهم على ما اقترفوا بحق الحزب والثورة.
اجتمعت القيادة القطرية المؤقته فور تنفيذ العملية وقررت تسمية الدكتور نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة، وتسمية الدكتور يوسف زعين رئيساً للوزراء وضمت هذه الوزارة لأول مرة في تاريخ سورية وزيراً يمثل الحزب الشيوعي السوري، إضافة الى وزراء ناصريين واشتراكيين ومستقلين.
وقررت القيادة دعوة المؤتمر القطري الثاني، وكانت صلاحيته لا تزال قائمة، لعقد دورته الاستثنائية الثالثة في 10 آذار1966، وحضر هذه الدورة الأكثرية المطلقة من أعضاء المؤتمر، وقاطعها أنصار القيادة الموسعة وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد، وانتخب المؤتمر في نهاية دورته قيادة قطرية جديدة ، من: نور الدين الأتاسي – صلاح جديد – يوسف زعين – حافظ الأسد – محمد الزعبي – عبد الكريم الجندي – جميل شيا – مصطفى رستم – محمد رباح الطويل – مروان حبش – محمد عيد عشاوي – فايز الجاسم – ابراهيم ماخوس – أحمد سويداني – حبيب حداد – كامل حسين. وكان باكورة قراراتها البدء باتصالات مع المنظمات القومية للحزب من أجل تشكيل لجنة اتصال قومي مهمتها الإعداد لمؤتمر قومي للحزب.