مختارات من الكتب
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة
من كتاب في سبيل البعث، الجزء الأول، الباب الثاني (11)
لقد عرّفنا حركتنا في عدة مناسبات سابقة تعريفات متعددة، وأريد الآن أن ألح على ناحية هامة فيها، لذلك أستطيع تعريفها على ضوء هذه الناحية المقصودة بأنها الحركة التي تستطيع أن تسيطر على الظروف، وهذا يعني ان كل ما يجري في بلاد العرب وكل ما ينشأ فيها ويظهر ويعمل من أحزاب وتكتلات وقوى سياسية تتصف بالصفة المعاكسة تماما، وهي انها كلها خاضعة للظروف، لذلك فهي مؤذية فاشلة. ولسنا نقصد بالظروف الظروف السياسية فحسب، من حوادث داخلية وخارجية، ومن حوادث طارئة او مؤقتة تأتي في سنة من السنين او برهة من الزمن. بل نقصد الظروف الراهنة، التي هي نتيجة أجيال وفترات طويلة من الزمن، أي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية التي تميز وتطبع الوضع الذي يستدعي الانقلاب. يضاف اليها الظروف السياسية التي هي نتيجة للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
اذن كل من لا يستطيع أن يجابه هذه الاوضاع مجابهة جدية وان يهدمها او يشق الطريق لتهديمها ينحاز اليها. فالمشكلة بالنسبة للعرب هي ان يتمثل نزوعهم الى الحياة والتخلص من هذه الاوضاع، في حركة تستطيع أن تسيطر على الظروف التي فشلت كل الحركات والجهود الاخرى في السيطرة عليها فأصبحت مقوية للفساد ومدعمة له، لا لأنها كلها في الاصل فاسدة أو ترغب في الفساد، بل لأن بعضها لم يعد العدة الكافية لكي يسيطر على الظروف.
وأول ما يمكن أن يذكر من شروط لهذه الحركة التي تستطيع السيطرة على الظروف هو أن تكون من الناحية الفكرية في مستوى القضية التي تحاول حملها، وهذا يعني ان التفكير الذي تبنى عليه هذه الحركة يجب أن يكون تفكيرا عربيا. وهنا ينتفي كل جهد وكل محاولة محلية او شخصية لا ترتفع الى هذا المستوى والى هذا الشمول. ان هذا المستوى المرتفع الشامل لا يطلب فقط من حيث اتساع الرقعة والعدد، أي أن يضم كل العرب، وانما يطلب منه أن يعالج جميع المشاكل الأساسية التي تتعلق بحياة العرب والشعب العربي، بعيشهم وعملهم وانتاجهم، بحريتهم وكرامتهم. واعتقد ان حركتنا وضعت يدها على أخطر المشاكل في حياة العرب وعينتها عندما حصرتها في هذه النواحي الثلاث: الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية.
والشرط الثاني شرط عملي يتعلق بتنظيم الحركة، وكما انها تقوم على تفكير عربي شامل فان تنظيمها كذلك يجب أن يكون على نطاق عربي شامل، وكما انها تقوم على اساس فكري واقعي حيوي ينصب على المشاكل الأساسية، كذلك يجب أن يكون التنظيم مستندا على الطبقات التي تمثل هذه المشاكل الاساسية حتى تستطيع أن تضمن النجاح. لذلك يقوم التنظيم في البعث العربي على ثلاث دعائم كما ان التفكير في البعث العربي يقوم على ثلاث دعائم ايضا هي الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية، فالتنظيم يقوم على أساس الجيل الجديد الذي يمثل الوعي وقوة النفس والارادة والعقيدة، وعلى أكثرية العرب الذين لهم مصلحة حيوية في الانقلاب، كما يقوم على نطاق عربي شامل لا يتجزأ وبالتالي لا يتناحر وينفي بعضه بعضا.
عندما يقول الخصوم في جملة دعايتهم ضد حركة البعث العربي بأنها خيالية أو شيء من هذا القبيل، انما يتجاهلون هذه الحقائق الواقعية في حياة العرب: حقيقة الوعي والمصلحة الحيوية، حقيقة الوحدة، وحقيقة مصلحة العدد الأكبر، وهم بصورة خاصة يتجاهلون هذه الحقيقة الاخيرة، حقيقة مصلحة العدد الاكبر وما تخفيه من قوة جبارة.
فالاشتراكية وحدها لو وجد أشخاص يؤمنون بها تشكل أكبر خطر على الاوضاع الفاسدة القائمة. نحن اذن في قلب الواقع، وهذا يفترض ان يكون سلوك الحركة منسجما مع مبادئها. اذ نرى ان كثيرا من الذين يدعون الاشتراكية يتبنون الأوضاع الفاسدة، وسرعان ما تنكشف خدعتهم. والايمان بالاشتراكية وحدها يتطلب الانفصال عن الاوضاع الرجعية فكيف اذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمة هما: الحرية والوحدة العربية.
ليس يكفي ان نقول ان حركة البعث العربي تستطيع بهذه المبادىء والشروط ان تسيطر على الظروف وبالتالي تحقق الانقلاب، فهناك جوانب يجب أن توضح ويمكن ان ألخصها في أن حركة البعث العربي لا غنى لها عن فلسفة عامة في الحياة، فهي حركة تقدمية تحررية، وهي بذلك حركة عميقة جدا تتصل بالمفاهيم الانسانية الخالدة. ولا يمكن أن تكون هذه الحركة بمثل هذا التناسق والاحكام والشمول الذي نطلبه، وان تكون في الوقت نفسه فاقدة لنظرة عامة إلى الحياة.
اننا نستمد هذه النظرة من تعريفنا الاول وهو ان تكون الحركة مسيطرة على ما يحيط بها ويتداخل فيها من ظروف. اذن لا بد للبعثيين كمجموع وللبعثي كفرد من نظرة تقويم إلى الحياة، أي لا بد للحركة من نظرة أخلاقية. وأستطيع أن أتوسع أكثر من ذلك لأقول بأن الحركة تحتاج لا إلى نظرة أخلاقية فحسب بل إلى نظرة فلسفية عامة، اي ان يكون لها نظرة في الكون ومظاهره وعلله وفي الانسان ومعنى حياته وفي الاخلاق.
اقتصر الآن على الكلام عن الناحية العملية البارزة في حركتنا. المهم في حركة انقلابية تتصدى لتغيير مجرى الحياة في امة هو ان تقلب القيم، فلا شك ان القيم المألوفة الشائعة منسجمة مع الاوضاع التي تغذيها، لذلك لا يعقل ان تظل هذه القيم سائدة عندنا وان نكون انقلابيين. والناحية الجوهرية في الموضوع هي أي نوع من الحياة نفضل، فلا نحسب ان كل الذين يسايرون الاوضاع الفاسدة ويعيشون في ظلها يطلبون حياة الظلم والافساد والتآمر والخيانة، فهذه الصفات لا تنطبق الا على عدد قليل من الرجال البارزين على المسرح السياسي والذين أصبحوا الآن في يد القوى الرجعية والاستعمارية، ولكن هؤلاء ليسوا كل الذين يجارون الاوضاع الفاسدة. والأصوب ان نقول بأن الأكثرية من هؤلاء الداعمين للاوضاع الراهنة لا يطلبون الا حياة طبيعية معقولة، لا يطلبون الظلم وانما يطلبون ان يحيوا حياة طبيعية اي يطلبون العيش الطبيعي، ولكن العيش الطبيعي في ظروف غير طبيعية وغير سليمة هو عيش غير مشروع. انما نطلب العيش الطبيعي لشعبنا بمجموعه، هذا العيش الذي نناضل في سبيل تحقيقه في مستقبل قريب، فهذا العيش اذا تحقق، قبل حصول الانقلاب، لأفراد وعن طريق غير الطريق الانقلابي انما يكون ظلما وعدوانا على الأكثرية.
فالنظرة الأخلاقية للبعث العربي بشكلها الحاضر تنحصر في الامر الآتي: مادام هذا النوع من العيش الطبيعي الكريم محرما على الاكثرية الساحقة من الشعب، نتيجة للاوضاع الفاسدة، فان المؤمنين بحق الشعب لا يقبلون ان يشاركوا في عيش يعتبرونه الآن غير مشروع، ويرونه ظلما للشعب. لذلك فهم يفضلون عليه حياة المبدأ. فالنضال وقانون الحياة الذي لا هزل فيه، لا يمكن أن يسمح بتحقيق غاية كبرى وتقدم خطير وانقلاب جوهري دون أن يقابل ذلك ثمن كبير هو التضحية هكذا فان في الشروط التي ذكرتها، الفكرية والعملية، ما يكفي موضوعيا لتحديد الطرق الصحيحة الناجحة لحركتنا.
فعندما تبنى الحركة على المبادئ التي ذكرناها، اي عندما تعالج القضايا على أساس عربي وتستند على المصلحة المعنوية والمادية للشعب يفهم من ذلك بأن هذه الحركة ستكون حركة نضالية منفصلة عن كل الفئات والاشخاص الذين يدعمون اوضاع الاستثمار والاستبداد. وبصورة طبيعية يكون المجندون في هذه الحركة بعيدين عن الاستغلال. غير انه لا يجوز أن نجعل من الانسان آلة ونكتفي بالشروط الموضوعية. وانما يجب أن نستخرج كثيرا من الشروط وننقلها إلى الضمير كي يعرف المؤمن بهذه المبادئ لماذا اختارها ولكي يجد من نفسه معينا لتغذية نضاله، لذلك لا بد من وجود فلسفة مبسطة عن الحياة تجسم لهذا الجيل المناضل رسالته في هذه المرحلة التاريخية، أي تجسم له حقيقة مهمته، وتسهل عليه التضحية، في هذا الدور، بالحياة الطبيعية التي يتوق اليها كل انسان سليم، والتي يرفضها هذا الانسان نفسه عندما يجدها عائقا لتحقيق مبادئه، ملطخة بدماء الشعب.
ان هذا المستوى الذي أردناه منذ البدء لحركتنا كما وضعناها منذ نشوئها هو مستوى واقعي لا غلو فيه ولا خيال لانه الوحيد الذي يستطيع أن يتكافأ مع الظروف القاسية. ان الكثيرين يرفضون هذا المستوى عن تصميم او سطحية او جهل، ويرون حركتنا بعيدة عن الواقع وعن التحقيق، وينسبون الجدية إلى حركات ليس فيها أثر للفكر فيرفضون سلوك هذا الطريق ويكتفون بحركات ارتجالية تقوم على زعامات ملفقة، ويسمون هذه الحركات واقعية وهي أبعد ما تكون عن تلبية الحاجات. انهم يقبلون بالحركات المأجورة من الاجانب وينتظرون منها الخلاص، ويسمون خيالا هذا التصوير الصادق لحاجات الامة العربية.
ونحن الذين لا ننخدع بالمظاهر نعلم ان وراء كل رأي عوامل نفسية وعوامل خلقية وعوامل مصلحية. وفي أغلب الاحيان ليس هذا التباين بيننا وبين الآخرين تباينا في الفكر، وانما هو تباين في المصلحة ومقدار التجرد عن المنافع الخاصة. فالذين يجدون ان الامة العربية لم تنضج بعد كي توضع قضيتها في الشكل العلمي كما وضعت قضايا الامم ذات المهام الخطيرة في التاريخ، ان الذين يرون ان أمتنا لم تنضج بعد لا يعبرون في الحقيقة عن رأيهم في الامة وانما عن أنانيتهم ومصالحهم الخاصة.
عام 1950