مختارات من الكتب
ميشيل عفلق: خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب
من كتاب في سبيل البعث، الجزء الأول، الباب الأول (8)
خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب
… لننظر(1) ما هي حقيقة هذه النظرة (خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب ) وما نصيبها من الصدق وبالتالي ما هو أثرها في حياتنا وانشاء مستقبلنا؟ ينظرون الى الحياة نظرة سطحية تأخذ بالمظهر، فيرون ان الانسان يبدأ صغيرا في جسمه وفي عقله فيرون ان الصغر هوا لنقص وأن الكبر هوا لكمال. ولكن اذا تعمقنا قليلا فاننا واجدون ان الانسان في سن الشباب يحتوي على أعلى درجة وأكبر طاقة من الفضائل الحية، وأنه ان كان لايستطيع التعبير عنها باللفظ والكمال وبالحكمة والرصانة فما ذلك الا لأنها فضائل حية متقدة لا تترك لها حيويتها مجالا لان تصاغ في الكلام، الكلام الحكيم والافكار الرصينة، ولا تترك لها مجالا ان تنظر الى الوراء وتراقب وتشاهد بدل أن تندفع وتعمل، بدل ان تقرر، بدل أن تخلق وتبدع. فما يراه الجيل القديم وذوو النفوس الضعيفة نقصا في الشباب ليس الا الكمال ذاته، وما يحسبونه كمالا في الشيخوخة ليس الا نقصا: فالشاب تؤهله الحياة لان يبقى متحررا من شتى المؤثرات النفعية الجبانة الانهزامية لان الحياة تأبى عليه كل ذلك وعندما يبدأ يجتاز سن الشباب ويبدأ الوسط يعمل فيه تأثيرا وتخديرا ليهبط به الى مستوى العجز والخنوع والتشاؤم وليكبله بشتى القيود الاصطلاحية المصطنعة وليجعل منه حيوانا اليفا، عندها يدخلون في روعه انه بدأ يكتمل ويختمر، وانه زاد عما قبل واكتسب شيئا جديدا وهو بالواقع بدأت خسارته وبدأت حيويته ينال منها الضعف وبدأت عفويته تؤسر وبدأ ينبوع نفسه المتدفق تلقى فوقه الاحجار والصخور حتى ينضب ويجف.
فاذا نظرنا أيها الاخوان الى حالة الامة العربية في هذا الظرف الخطير… اذا عرفنا ان شر ما تبتلى به امتنا هوا لنفعية والجبن والتخاذل استطعنا ان نستنتج بسهولة أن صفات الشباب ومميزات الشباب هي وحدها المتلائمة مع حاجات أمتنا المتحفزة للبعث والنهوض.
وبين الشباب وبين أمتنا موعد وتلاق وتوافق وانسجام. وما يسمونه خيالية الشباب وما يسمونه طيشا وقصرا في النظر وعدم تقدير للعواقب، هوالحدس الصافي والحس السليم والفهم العميق لمبادئ حركة الانقاذ في حياة امتنا.
فاذا أضفنا الى سن الشباب صفة الثقافة والوعي اهتدينا الى الشرطين الاساسيين اللذين لا غنى عنهما لحركة الانقاذ والخلاص :
1- شرط الوعي والثقافة.
2- شرط الشباب.
ولكن في مجتمع كمجتمعنا ما زال يتحكم به الاجنبي تارة بصراحة كما في بعض أجزاء أرضنا وتارة بصورة مستورة من وراء الطبقات النفعية المتآمرة على حياة شعبنا، وما دام مجتمعنا مسيرا لمصلحة الاستعمار والطبقات المستثمرة، فمن العبث أن ننتظر منهما لرسالة الشباب ورسالة الثقافة نفعا يصدر عن مؤسسات المجتمع الرسمية وعن المدارس بصورة خاصة. فهذا المجتمع الذي يسيطر على تنشئة اجيالنا يزيف رسالة الشباب ورسالة الثقافة، ويحاول ان يجعل من الشباب شيوخا وهم في ميعة الصبا ويحاول أن يجعل من الثقافة أداة خمول بدل ان تكون أداة ثورية لتعيد الينا الحياة العربية السليمة الصافية…
لذلك لا بد أن يضطلع بهذه المهمة من هم متحررون من آثار المجتمع وسيطرة الحكومات والمؤسسات الرسمية ليعيدوا الى الشباب ثقته بنفسه وليحملوه مسؤوليته بيده. فكانت مهمة الاحزاب الانقلابية والحركات الشعبية، هي أن تنشئ مدرسة صريحة سليمة يسمع فيها الشباب نداء روحهم، ليؤدوا رسالتهم.
أيها الاخوان: في المجتمعات السليمة تكون مهمة التثقيف ان يحافظ الشباب على شباب نفوسهم وعلى نضارتها وعلى حرارة عاطفتهم وعلى عفوية اندفاعاتهم حتى بعد ان يجتازوا سن الشباب. فالمجتمع السليم هو الذي يمد في عمر الشباب، يمد في أجل الشباب. اننا نشاهد آثار ذلك في بعض الامم الراقية وكيف ان الشيوخ والكهول هم من القدرة على التجدد المستمر والابداع المستمر مما هيأ لمجتمعاتهم أن تقوى على الفناء وأن تتكيف مع نواميس الحياة وان تستمر في الصعود.
فميزة المجتمع السليم هي انه يبقي على النزعة المثالية، يبقي على النظرة الحرة المنطلقة، وعلى روح الكفاح، هي انه يقضي على النظرة النفعية… يجدد فتوة النفس بشتى الوسائل، بالفن، والفكر، لكي يبقى الانسان جديرا بهذه التسمية ولكي تبقى انسانيته سليمة.
ولكن المجتمع المتأخر، المجتمع الذي يحتاج الى ثورة وانقلاب هو على العكس، يسعى لجعل شبابه كهولا وشيوخا متخلفين…
هذا ما نشاهده في مجتمعنا الحاضر… هذه المحاولة المجرمة التي تريد أن تقضي على اندفاعات الشباب التي هي أثمن كنز في امكانيات امتنا، فاذا وعى الشباب هذا القدر الجليل الذي يؤهلهم ان يمثلوا انتفاضة امتهم في هذه المرحلة وأن يستغلوا فضائل الحياة أبعد استغلال… أن ينشدوا الثقافة الحرة التي تربطهم بمصير أمتهم…
وأي حرية أوسع وأعظم من أن يربط الانسان نفسه بنهضة امته وثورتها.
عام 1955
(1) ألقي هذا الحديث في حفلة اقامها الطلاب الثانويون في دمشق للتعارف بتاريخ 7 نيسان 1955