معاهدة باريس 1936
أوعزت الحكومة الفرنسية إلى مفوضها السامي دي مارتيل أن لا يتأخر في عقد المعاهدة مع أية حكومة سورية حائزة على ثقة أكثرية الشعب السوري.
وجد دي مارتيل أن لا بديل أمامه والحالة هذه من تعديل سياسته تجاه زعماء الكتلة الوطنية. فبدأ مفاوضات مع السيد هاشم الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية، ثم أعلن في مطلع شهر شباط 1936 استعداده للتفاهم والعمل مع الوطنيين السوريين على أساس سفر وفد منهم إلى باريز للاتفاق مع وزارة الخارجية الفرنسية على دستور يضمن للبلاد استقلالها ووحدتها، “بموجب معاهدة تعقد بين البلدين في هذا الشأن”.
اشترط الوطنيون استبدال حكومة الشيخ تاج بحكومة حيادية، فوافق المندوب السامي وأوعز للشيخ تاج بالاستقالة، وصدر مرسوم بتاريخ 23/ شباط 1936 بتكليف عطا بك الأيوبي بتشكيل وزارة جديدة.
حدد المفوض السامي مهمة وزارة عطا بك الأيوبي بما يلي:
متابعة المبادئ المنصوص عليها في صك عصبة الأمم ضمن نطاق حياة برلمانية تساعد على التوفيق بين فكرة الوحدة واحترام حقوق الأقليات، والعمل على إزالة سوء التفاهم الذي قد يكون بين السوريين وسلطة الانتداب، والتهيئة لعودة الحياة النيابية من أجل إيجاد معاهدة بين فرنسا وسورية، مستوحاة من المعاهدة “البريطانية ـ العراقية”، وتمهيد السبيل أمام دخول سورية إلى عصبة الأمم.
اتفق زعماء الكتلة الوطنية على عدم الإقدام على أية خطوة إلا بعد الوقوف على نيات الفرنسيين، وأذاعوا بياناً بتاريخ 28/ شباط 1936 م وصفوا فيه بيان المفوض السامي بالغموض.
على أثر إذاعة بيان الكتلة دعا المفوض السامي السادة:
هاشم بك الأتاسي ـ عبد الرحمن الكيالي ـ فارس الخوري ـ عفيف الصلح، للاجتماع به في بيروت، وجرت المفاوضات لإزالة الإبهام والغموض في بيان المفوض السامي.
أذاعت الكتلة الوطنية في 2 آذار 1936 بياناً حول الاتفاق الذي جرى بينها وبين المفوض السامي أذكره باختصار:
أولاً ـ الموافقة على أن لا تقل حقوق السوريين في المعاهدة العتيدة عن حقوق إخوانهم العراقيين في معاهدتهم الأخيرة مع بريطانيا…
ثانياً ـ لا مصلحة لفرنسا في تجزئة البلاد السورية…
ثالثاً ـ نقل ساحة العمل التفاوضي إلى العاصمة باريز…
رابعاً ـ إعادة الحياة النيابية الحرة بأسرع ما يمكن…
خامساً ـ إصدار عفو عن المحكوم عليهم، وإطلاق الحريات…
في 14 آذار 1936 صدر مرسوم جمهوري بتسمية أعضاء الوفد السوري للمفاوضات في باريز ويتألف من:
هاشم بك الأتاسي رئيساً، وفارس الخوري وجميل مردم بك وسعد الله الجابري ومصطفى الشهابي وإدمون حمصي أعضاء، ونعيم أنطاكي وأحمد اللحام بصفة أمينيّ سر الوفد.
استغرقت المفاوضات في باريز حوالي ستة أشهر جرى خلالها نشاط كبير في سورية، حيث تم تنظيم الشبيبة والطلبة والكشافة والفتوة، كذلك تم تشكيل فرقة القمصان الحديدية، وسوف أتحدث عنها بتفصيل أكثر فيما بعد عند الحديث عن فخري بك البارودي.
المفاوضات من أجل المعاهدة:
وصل الوفد السوري إلى باريز في 25/آذار/1936 يرافقه المفوض السامي دي مارتيل، للاشتراك في مفاوضات الوفد مع وزارة الخارجية الفرنسية. وقبل البدء بالمفاوضات غادر دي مارتيل باريز إلى “منتجع فيشي Vichy” للاستجمام وصرح هناك:
“بأنه جاء إلى باريز مع وفد يمثل بعض الوجهاء السوريين ليريهم عظمة فرنسا وحضارتها العمرانية، وسيعود بهم إلى بيروت حيث تجري المفاوضات مع زعماء البلاد الحقيقيين وهم “رجال الدين من المسلمين والمسيحيين”.
في غضون ذلك تغيرت الوزارة الفرنسية وأصبحت اشتراكية متطرفة، وعهد إلى السيد ليون بلوم Léon Blum زعيم الأكثرية الاشتراكية بتشكيل الوزارة الجديدة، وبدأت هذه الوزارة بإجراء مفاوضات مع الوفد السوري الذي فوجئ بوصول المطران الماروني من لبنان، الذي طلب بتشدد من فرنسا المحافظة على حقوق الأقليات والطوائف!!…
“أدى ذلك إلى خلق جو من الاضطراب أمام الوفد السوري وتعثرت بعدها المفاوضات”.
وقد أورد السيد وليد المعلم في حاشية كتابه “سورية طريق الحرية” ما يلي:
وصلتْ إلى مكتب رئيس الوزراء الفرنسي برقيات تقول (اليوم منعوا المسيحيين في حلب من شرب الخمور وغداً يمنعونهم من دق أجراس الكنائس، نسترحم التشدد في حماية الأقليات خلال مفاوضاتكم مع الوفد السوري).
ووصلت أيضاً عشرات البرقيات من مطرانيات المسيحيين في سورية ولبنان والعراق شرحت ما يعانيه المسيحيون من تزمت رجال الدين المسلمين!!…
ومن وجهة أخرى وصلت إلى الحكومة الفرنسية برقيات وعرائض تحمل مئات التواقيع من مختلف المناطق والطوائف في سورية تطالب بوحدة البلاد واستقلالها وتؤيد مهمة الوفد السوري والتمسك بوحدة الأرض والوطن.
“كما وصلت إلى دار المفوضية الفرنسية في بيروت عشرات البرقيات والعرائض والتواقيع من أهالي طرابلس الشام تطالب بالوحدة مع سورية الأم كذلك من أهالي راشيا والبقاع، ومن العلويين في لواء إسكندرون تحمل آلاف التواقيع وتطالب:
1 ـ بتحقيق الوحدة السورية دون قيد أو شرط.
2 ـ إعادة دستور عام 1928 الذي وضعته الجمعية التأسيسية.
3 ـ إعادة الحياة الطبيعية إلى البلاد السورية.
4 ـ عقد معاهدة مع فرنسا تضمن لسورية الوحدة والحرية والاستقلال.
ظلت المفاوضات السورية ـ الفرنسية بين شد وجذب إلى أن توصل الطرفان إلى اتفاق على جميع الجزئيات. وفي 9 أيلول 1936 احتفل بمبنى وزارة الخارجية الفرنسية بتوقيع رئيس الوزراء ليون بلوم Léon Blum والسيد هاشم بك الأتاسي رئيس الوفد السوري على هذه المعاهدة التي يشترط تنفيذها “إبرامها من مجلسيّ النواب السوري والفرنسي”.
ما أن وصلت أنباء التوقيع على هذه المعاهدة حتى خرج الناس إلى الشوارع للتعبير عن ابتهاجهم وسرورهم بتحقيق أماني البلاد التي طال انتظارها.