مقالات
محمود جديد: بلاغ سقوط القنيطرة 1967 عنوان الهزيمة العسكرية
محمود جديد- التاريخ السوري المعاصر
لم يتوفّر في المكتبة العربية أيّ مصدر موثوق يمكن الاعتماد عليه لمعرفة ماجرى على الجبهة السورية أثناء عدوان حزيران عام 1967، والذين كتبوا في هذا المجال لم يكونوا مؤهّلين عسكريّاً لمهمة صعبة ودقيقة من هذا القبيل ، وانطلقوا من أحقاد وتفاسير طائفية تبعدهم عن العرض والتحليل والتفسير الموضوعي لما جرى ، واعتمدوا نثريّات من القيل والقال .. وفي الوقت نفسه ، لم تتسرّب معلومات عن أيّ قائد عسكري شارك في اتخاذ القرارات العسكرية ، أو اطّلع عليها مباشرة في وقتها يمكن الركون إليها، فكلّ المسؤولين العسكريين الذين ذكرتهم في المقال السابق وأضيف إليهما قائد الجبهة آنذاك العميد أحمد المير ورئيس أركانه العميد حكمت الشهابي ، لم يصدر عنهم ما يستحق الذكر .. ولا أدّعي أنّني قادر على إيفاء الموضوع حقّه المطلوب ، ولكنّني سأعرض بعض الوقائع والأسماء بصدق وشفافية ودون تمويه أو إخفاء معلومة أعرفها ، أو التستّر على أحد… وفي الوقت نفسه ، لست متطفّلاً على العلوم العسكرية فخبرتي العملية ، والشهادات التي حصلت عليها في هذا المجال ، سواء في مصر أم في سورية ، تتيح لي الحديث في مثل هذه الأمور الميدانية وتقييمها ..
– بعد اتضاح الهزيمة العسكرية على الجبهتين المصرية والأردنية خلال الفترة من الخامس من حزيران 1967 وحتى مساء الثامن منه ، واتّخاذ مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق النار على الجبهات الثلاث ، وقبول الحكومتين المصرية والأردنية به ، فإنّ القيادة السوڤ-;—;–ييتية ضغطت على الحكومة السورية للقبول به .. كما تلقّت القيادة السورية برقيّة من المرحوم الرئيس عبد الناصر يناشدها فيها الموافقة على وقف إطلاق النار “حفاظاً على الجيش السوري العزيز” (وفق تعبيره) ، ويبلغها بالهزيمة العسكرية المصرية .. وقد وضّح للوفد السوري الذي زاره برئاسة وزير الخارجية المرحوم الرفيق الدكتور إبراهيم ماخوس عقب العدوان بأنّه تقصّد ” اختيار كلمة هُزِمنا عن قصد رغم ثقلهاعلى نفسه حتى لا يبقى لدى حزبنا أيّ وهم عن إمكانياته فيندفع بحماس الشباب -كما قال – دون أن يمتلك القدرة الكافية لمواجهة العدو الذي انتقل بكل ثقله للجبهة السورية”. ( فقرة من نقد تجربة حزب البعث – الجزء الرابع – المقرّ عام 1980 ) ..
الموقف العام قبيل الهجوم البرّي على سورية :
————————————–
– لم يحقّق العدوّ الإسرائيلي شيئاً ذا أهميّة على الجبهة السورية منذ منتصف الخامس من حزيران 1967 ، وحتى مساء الثامن منه ، باستثناء نتائج قصفه الجويّ المستمر منذ منتصف يوم : 5 / 6 / 1967، والذي استهدف المطارات السورية ، وشبكة الدفاع الجوّي القريبة منها والمتواجدة في جبهة الجولان ، وقد ألحق بهما خسائر كبيرة . وهكذا أصبحت الجولان ، والأجواء السورية شبه مستباحة للطائرات الإسرائيلية بعد ذلك .
– استطاع العدو نقل قسم مهمّ من قواته من الجبهتين المصرية والأردنية إلى الجبهة السورية بعد إلحاق الهزيمة العسكرية بالجيشين المصري والأردني وسريان مفعول قرار وقف إطلاق النار هناك .. وبذلك حقّق العدو تفوّقاً كبيراً بالقوى والوسائط على جبهة الجولان يؤهّله لبدء الهجوم البرّي الواسع على الدفاعات السورية بظروف ملائمة جدّاً .. حيث حشد مجموعة قتالية مكوّنة من ثلاثة ألوية مدرّعة ومحمولة مدعّمة على كل قطاع من قطاعات الجبهة الثلاثة ، مع تأمين سيطرة جوية مطلقة ممّا زاد من نسبة التفوّق ..
– كثّف الطيران الإسرائيلي غاراته على المواقع السورية في الجبهة ، وساعده على ذلك قرب المطارات الإسرائيلية من ساحة المعركة ، والخسائر التي لحقت بوحدات الدفاع الجوّي السورية ، والروح المعنوية العالية لسلاح الجوّ الإسرائيلي بعد نجاحه في تنفيذ خططه العدوانية في الجبهتين المصرية والأردنية ، وإخراج القوات الجوية هناك من المعركة .. وأصبح الطيّار الإسرائيلي يستهدف حتى الآليّة الواحدة ( وحتى سيارات الإسعاف ) التي تتحرّك على محاور ومسالك الجبهة في الجولان .. وقد أثّر ذلك على التأمين الإداري والطبّي والفنّي للقوات السورية ، وعلى المناورة بالقوات …
– لقد تركت نتائج المعركة على الجبهتين المصرية والأردنية تأثيراً معنوياً سلبيّاً للغاية في نفوس القوات السورية المدافعة ..
– تزايدت الضغوط الروسية على القيادة السورية للقبول بقرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النار على الجبهات الثلاث .. كما لعبت برقية عبد الناصر دوراً مهمّاً في هذا المجال ، وهذا كلّه جعل الحكومة السورية توافق على ذلك القرار ، بينما كانت مصمّمة على الاستمرار في القتال والعمل على إرغام العدو على خوض حرب طويلة الأمد لإنهاكه واستنزافه ، وحرمانه من أيّة (مكاسب ) يحقّقها نتيجة ضرباته العدوانية الخاطفة التي يعتمدها عادة في عقيدته القتالية ، وثمّ خلق الظروف الملائمة لهزيمته اعتماداً على أسلوب الحرب الشعبية (وهذا ما أشرت إليه في المقال السابق ) … ولكنّ العدو لم يقبل بقرار مجلس الأمن لوقف النار ، واستمر في تنفيذ خطته العدوانية .. وحسب تقديري ، كانت تشمل بحدودها الدنيا احتلال مدينة بانياس الشام ومصادر المياه فيها ، قبل أي تفكير بوقف النار إذا اشتدت الضغوط الدولية عليه ، وتعرّض لخسائر كبيرة في الأرواح والعتاد ..
بدء العدوان البرّي الشامل وسير المعارك :
————————————
ابتدأ العدو هجومه البرّي صباح 9 / 6 / 1967 مركّزا ضربته الرئيسية باتجاه القطاع الشمالي مع تنفيذ هجمات أخرى مساعدة في القطاع الأوسط والجنوبي .. وقد تصدّت له الوحدات المتقدّمة ، والأنساق الأولى من الدفاعات السورية ، وقاتلته بشراسة ، وأنزلت بدباباته ومشاته خسائر موجعة أجبرته على التوقّف والاستنجاد بالطيران للتعامل مع الأسلحة المضادة للدبابات على وجه الخصوص ، كما لجأ إلى شق طريق جديد في المناطق الجبلية الصخرية من القطاع الشمالي بواسطة / البلدوزرات / المحمية بنيران الدبابات شمال تموضع قواتنا للالتفاف حولها من الجانب الأيمن والأعلى ، وتجنّب نيرانها .. وكما هو معروف في العلوم العسكرية أنّ القوات المدرّعة تستطيع خرق أيّة دفاعات مشاة متواجدة في الأنساق الأولى ، ويبقى التباين محصوراً بين حالة وأخرى بالزمن وحجم الخسائر ، وقد اعترف الضباط الإسرائيليون الذي كتبوا عن تلك الحرب ببسالة مقاتلينا ، وخاصة الوحدات التي كانت متمركزة في تل العزيزيات ، وتل الفخار .. وهي فعلاً أدّت واجبها العسكري كما هو مخطّط لها وبكفاءة عالية ..
فكانت معركة تل الفخار من أشهر المعارك وأكثرها ضراوة حيث استطاعت سرية مشاة سورية أن تصد هجوم نخبة القوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي “اللواء مشاة جولاني ” ، ونتيجة تكبده خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد اضطر عدة مرّات للتوقف عن متابعة الهجوم ، وطلب الدعم الجوّي ضدّ موقع السرية الباسلة لتدمير الأسلحة المضادة للدبابات المدعّمة بها ، وبعد أن تمكن العدو من احتلال ذلك الموقع استطاع توسيع قطاع خرقه ، واحتلال معظم الموضع الأوّل من النطاق الدفاعي الأوّل في القطاع الشمالي ، وبعمق حوالي 5كم وحتى مساء اليوم الأول . ..
كان توجيه القيادة السياسية في دمشق هو التشبث بالمواضع الدفاعية وسد الثغرة التي خرق منها العدو عن طريق شنّ هجوم معاكس ليلاً ، وهذا ما أشار إليه الرفيق مروان حبش عضو القيادة القطرية للحزب آنذاك وابن القنيطرة في كتاباته السابقة حول الموضوع حيث وصف ماحدث بعد ذلك فذكر : “( أطلع وزير الدفاع مساء 9 / 6 قيادة الحزب الأعضاء المتواجدين في دمشق، لأن أغلب أعضاء قيادة الحزب كانوا قد توزعوا على المحافظات) على مجريات المعارك والخرق الذي حصل في القطاع الشمالي، من الجبهة.
طلبت القيادة منه القيام بهجوم معاكس في منتصف ليلة 9 / 10 لطرد القوات المعادية، ولكن هذا الهجوم فشل فشلاً كبيراً، لعدم التمكن من تهيئة بعض القوات المكلفة به، إذ لم يتمكن أحد قادة الألوية من تجهيز لوائه للانتقال من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم، والكتيبة المدرعة التي تقدمت ليلاً ضلت طريقها وتوجهت نحو تل أحمر قرب قرية بقعاتا، ظن قائد اللواء المرابط في المنطقة أنها قوات معادية وطلب من قيادة الجيش نقل مقر قيادته إلى خط الدفاع الثاني، وكان من المفروض أن يتأكد من صحة ما شاهده و ما ظنه تشكيلاً معادياً، من مقر القيادة الميدانية لتشكيله الموجودة في موقع تل أحمر غربي قرية بقعاتا.
لما أدرك قائد الكتيبة المدرعة أنه ضلّ الطريق، أمر كتيبته بالعودة ووصل في صباح 10 /6 إلى سفوح تل أبو الندى المشرفة على مدينة القنيطرة متوجهاً نحو مقر لوائه قريباً من المدينة، ظنت مراصد الاستطلاع أنها قوات معادية ، وأبلغت وزير الدفاع مباشرة بمشاهدتها، وعلى ضوء هذه المعلومات أذاع الناطق العسكري باسم قيادة الجيش البلاغ الأول حول سقوط المدينة، ولما تبين بعد قليل،خطأ المعلومات، عادت الإذاعة لتذيع حول المقاومة الباسلة في مدينة القنيطرة ضد العدو الصهيوني.” -انتهى الاقتباس –
ما تمّ ذكره متقاطع إلى حدّ كبير مع ما سمعته أثناء انعقاد مؤتمر عسكري في مبنى الأركان العامة في دمشق ضمّ قادة عسكريين على مستوى كتائب من التشكيلات المقاتلة في الجيش بهدف عرض وتقييم ماجرى ، ولم يحضره وزير الدفاع ولا رئيس الأركان .. وقد فهمت أنّ قائد اللواء الذي أبلغ عن تقدّم الدبابات الإسرائيلية باتجاه القنيطرة بينما كانت في حقيقتها دبابات صديقة هو العقيد ممدوح عبّارة ،وكان مقرقيادته على السفوح الغربية لمرتفعات بقعاتا ومشرفاً على الطريق العرضاني الذي يربط مسعدة بالقنيطرة ، وقد حمّله رئيس أركانه المقدم سليمان العلي في ذلك الاجتماع مسؤولية التبليغ الخاطئ، لأنّ الأخير كان متواجداً في مقر عمليات اللواء شرق مرتفعات بقعاتا ….وقد عيّن حافظ الأسد العقيد عبّارة قائداً لسلاح المدرعات فيما بعد ..
وعلى كلّ حال ، فإنّ جملة أخطاء قد حدثت وتتحمّلها عدة أطراف تتجلّى بالنقاط الرئيسة التالية :
– تسرّع قائد اللواء المدافع في منطقة مسعدة وبقعاتا العقيد ممدوح عبّارة في التبليغ الخاطئ ، قبل التأكّد من صحّة المعلومة ..
– ضعف تنسيق التعاون بين التشكيلات المدافعة .. فأيّ خرق يحدث في القطاع الشمالي لا يمكن أن يتم بدون معرفة قيادة اللواء الذي يدافع عنه ، وكان حريّ بالعقيد عبّارة ، أو قيادة الجبهة ، أو مقر عمليات قيادة الجيش المتقدّم المتواجد شرق منطقة القنيطرة بتكليف وحدات الاستطلاع التابعة لكل جهة تدقيق أماكن تواجد وحدات العدو ومحاور تقدّمها ، وهذه مهمة ثابتة ودائمة في كل وقت ومكان ..
– إنّ هذا التبليغ الخاطئ لا يبرّر لقيادة الجيش المتمثلة بوزير الدفاع حافظ الأسد وشعبة عمليات الجيش التي تعمل معه وتحت أمرته المباشرة التسرّع في إصدار البلاغ المشؤوم بسقوط القنيطرة بدون التفكير بكيفيّة معالجة هذا الخرق المزعوم ، بتكليف احتياط الجبهة المتمثّل باللواء 70 المدرّع المعزّز بقوات إضافية ، وكتائب وأفواج المدفية المضادة للدبابات ، ومدفعية الميدان المساهمة في التصدي لأي عدو مخترق ، وهذا من صلب مهماتها القتالية ، ومن المفروض أن تكون جاهزة لتنفيذها..
– بروز هزال تنسيق التعاون بين مقرّي عمليات قيادة الجيش المتقدّم ، والرئيسي في دمشق ، أو بينهما وبين قيادة الجبهة في القنيطرة ..
– عدم الاستخدام القتالي الصحيح لوحدات الاستطلاع على كافة المستويات ..
وكلّ هذه الملاحظات لا تبرّئ حافظ الأسد من تحمّل المسؤولية الأساسية المباشرة لإصداربلاغ سقوط القنيطرة المشؤوم ،وما نجم عنه من انسحابات وهزيمة عسكرية لأنّه صاحب السلطة العليا في اتخاذ القرار داخل الجيش ، وهو الذي أمر بإذاعته ، وكان من واجبه تدقيق الموضوع مع الجهات المعنية في الميدان ، قبل اتخاذ أي قرار بمثل هذه الخطورة .. ولا تعفى القيادة السياسية لاحقاً من مسؤولية عدم محاسبة القيادة العسكرية على تقصيرها وأخطائها ..