خليل مردم بك: ركود الأدب في سورية
المتعلمون في سورية بالنسبة لعدد السكان أكثر من المتعلمين في الأقطار العربية كافة، ومع ذلك فالحركة الأدبية في سورية ممنوةّ بركود يستدعي الاستغراب. فالمطابع في قلة انتاجها من آثار السلف أو مؤلفات المعاصرين تكاد تكون عقائم، والناس منصرفون عن الأدب انصرافاً لا يتلاءم مع أمة متحفزة للنهوض حتى كأن الأدب حاجة فضولية في حياتهم الاجتماعية، والأدباء قابعون في زواياهم لا يتعالى (فضوتهم) في أجواء المجتمع أو هم منصرفون لما لم يخلقوا له.
إذا سألت الأدباء عن سبب تخلفهم في مضمار الانتاج أجابوك والأسف يملأ نفوسهم أن الأمة لا تعنى بالأدب عنايتها حتى بالتافه من شؤون الحياة، فلماذا يوزعون انفاسهم بين ما لا يقدرونها حق قدرها، وأي كتاب عاد بعير التعب على مؤلفه او ناشره ثم لم يكن حظه الحبس الطويل؟ اللهم الا الكتب المدرسة التي تفرض على الطلاب فرضاً، بل متى تحدث الناس عن كتاب جديد مهما بلغ من الجودة كما يتحدثون عن أقل الحوادث؟
واذا بدا لك ان تستطلع رأي الناس في اهمالهم شؤون الأدب اجالوا الذنب على عقم الأدباء او سوءا انتاجهم، وأنهم لا يلذون ما تسيل به قرائح الأدباء في الفترة وان القليل الذي لا ينشر من اثار السلف لا يتذوقون حلاوته.
واذا بدا لك ان تستطلع رأي الناس في اهمالهم شؤون الأدب اجالوا الذنب على عقم الأدباء او سوءا انتاجهم، وأنهم لا يلذون ما تسيل به قرائح الأدباء في الفترة وان القليل الذي لا ينشر من اثار السلف لا يتذوقون حلاوته.
ودعوى الفريقين حق ومنهما كانت العلة التي رمت حركة الادب بالشلل في هذه البلاد، فيحسن بذل العناية في البحث عن منشأ تلك العلة وتشخيصها وتفهم عناصرها واعراضها.
ربما كان من اعظم الدواعي في تفاقم تلك العلة اختلاف ثقافة المتعلمين في سورية، فمنهم من اشتغلوا بأنفسهم وانقطعوا للطلب والمطالعة ومصادرهم كتب الادب العربية فثقافة هؤلاء عربية، ومنهم من تخرجوا بمدارس الاجانب فثقافتهم اما افرنسية او انكليزية، فهذه البلبلة في مناهج التعليم باعدت ما بين الآراء والاذواق فالكتاب الذي يؤلفه ذو ثقافة أجنبية لا يستسيغه ذو ثقافة عربية، وهكذا يبقى الكتاب في حدود من القراء ضيقه، فضلا عن ان النشء لم يتعودوا المطالعة منذ حداثتهم باقبال ورغبة. وينشأ عن ذلك بالطبع فتور همة الأدباء، فلا ينقطعون للادب انقطاعاً يشحذ قرائحهم وهممهم ويبرز مكنونات نفوسهم وعقولهم فيضطرون لاتخاذه اداة للتسلية والترويج لا غاية للحياة. فلا غرابة بعد ذلك اذا ندرت المؤلفات الأدبية التي تحبب المطالعة للناس وتغريهم بها وتجعل القراءة حاجة من حاجات الحياة التي لا يصبر عنها الانسان.
على ان في ادبنا نقصاً لم يكن تلافيه الى الآن ولعله من اعظم ما جعل الناس يزوون وجوههم عن تقدير الأدب والارتياح له وهو ان أدبناء مرآة غير صادقة لا تنعكس فيها حياتنا الحاضرة او أقل انه صورة لا تمثل الواقع كما هو، ولئن كان في الأدب القديم ما يمثل حياة اهله فانه لطبقة خاصة من المتأدبين لا لبقة لاناس الذي يشق عليهم استحضاء صورة القديم في اذهانهم بل هي بحاجة لما يمثل لهم شؤونهم الحاضرة ويحدثهم عنها.
والقصص والروايات خير وسيلة لهذه الغاية وما عندنا منها اكثره مترجم لا صلة له بحايتنا، والموضوع قليل جداً لا يسد بعض الحاجة دع عنك الخلل والتقصير الماثلين فيه من حيث ضيق التصور والتواء الاسلوب وقلة اللباقة في التأدبة والغفلة عما يحيط بنا ويحدث لنا.
وهناك عقبة نرجو ان يذللها الزمان بازدياد سواد المتعلمين وهي بعد الشقة ما بين لغة الأدب واللغة المحكية، ومعالجة هذه المعضلة تستلزم فضل تدير ورفق فشدة الكلف بالصنعة اللفظية تجعل الأدب كالمقامات تكلف مطالعها من العناء اضعاف ما تجلب له من اللذة، كما ان الدعوة الى استعمال العامة عقوق للغة والادب والقومية وتفريط في ميراث ادبي عظيم لا يقل عن اجل ما خلفته الأمم في الماضي. على ان الأديب اللبق قادر على ان يكون سهلاً مفهوماً من غير ان يخرج على قواعد اللغة وحدود البلاغة لاسيما فيما يكتبه للناس عامة.
وتقاطع الاقطار العربية او تقطيعها جعل جمهور القراء ضيئلا مشتتاً في العالم العربي لان الحجازي مثلا لا يعتبر دمشق او القاهرة او بغداد عاصمة له يشار اهلها في مصالهم وشعورهم ويهمه الاطلاع على ما يحدث فيها ويصدر من كتب وآثار أدبية، وهكذا السوري بالنسبة للاقطار الاخرى.
هذه اهم الاسباب التي نتج عنها ركود الحركة الادبية في سورية وهي كما ترى متلازمة بعضها ينشأ عن بعض. ومعالجة كل سبب منها تحتاج تبصراً وسعياً، وليس ادراك الامل بعيداً اذا صحت العزيمة على العمل.
خليل مردم بك