سأحاول في هذه الكلمة ان أزيل شيئا من سوء التفاهم الذي لا يزال يحول بين الشباب الثوري وبين العدد الاكبر من الشباب العربي. اذا كان الشباب في هذه البلاد لم يأت الينا بعد بالسرعة واللهفة اللتين نريدهما فما الذنب كله يلقى عليه. اننا حتى الآن لم نعرف ان نفصح عن أفكارنا بوضوح ولا أجهدنا أنفسنا الجهد الكافي لكي يكون كلامنا مفهوما لدى الآخرين.
نعم اننا ثوريون ندعو لشكل جديد من أشكال المجتمع، نعتقد فيه الخير وتحقيق السعادة. ولكن ألا يحق للذين لم يهتدوا بعد إلى ما اهتدينا اليه ولا اطلعوا على الذي اطلعنا عليه ان يسألوا: “وما هي فضائل هذا الجديد الذي تقترحونه علينا، اننا مستاؤون من القديم، ولكن أيكفي ذلك أن يورطنا في جديد مجهول؟”
انهم على صواب، وليت هذا الجديد كان مجهولا عندهم، اذن لاكتفينا بتعريفه اليهم، ولكنهم يعرفونه معرفة خاطئة، مشبوهة، وواجبنا يقضي بأن نمحو هذه الشبهات عن وجه الحقيقة. ومن حسن الحظ اننا لسنا رجال سياسة يختارون الشوارع والحفلات لينشروا دعايتهم، ويخاطبون العقل القاصر والشعور السطحي الفائر.
ان أحلامنا أصعب وأطماعنا أبعد. لذلك اخترنا الكتابة طريقا لبث أفكارنا وهي على عكس الخطابة تتوجه إلى العقل الهادىء الرصين والعاطفة العميقة الصادقة، هذا ما يضمن لنا انتباه الشبيبة المثقفة المتحفزة لفهم الحقيقة واعتناقها، اذا آنستها في جهة ما. ولكننا لم نعمل حتى الآن الا على تخييب ظنها فينا. وهل يروي ظمأ هذه الشبيبة ان نقتصر على لعن المجتمع البرجوازي والاشادة بذكر الفردوس الارضي الذي نحلم به حلم المؤمن بأطياف الجنة؟
لو سئلت عن أسباب ميلي للاشتراكية لأجبت: ان ما أطمع به منها ليس زيادة في ثروة المعامل بل في ثروة الحياة، وليس همي ان يتساوى الناس في توزيع الطعام بقدر ما يهمني ان يتاح لكل فرد اطلاق مواهبه وقواه. وقد لا يرى العامل الرازح تحت بؤسه فيالاشتراكية الا وعدا بأن يأخذ ما هو محروم منه، ولكني لا انظر أليها أنا الا كعطاء دائم سخي، بأن نعطي الحياة اضعاف ما بذلته لنا.
حتى اليوم نظر الناس إلى الحياة نظرة الكافر الجاحد لا نظرة المؤمن الواثق. هم يستكثرون منها أقل شيء لأنهم لم ينتظروا منها شيئا. على أنها أغنى مما يظنون.
لست أصدق ان القرن الكامل من السنين يعجز عن انتاج أكثر من فرد او فردين او عشرة افراد يليق ان يمثلوا الانسانية، وان نقول في الواحد منهم هذا هو الانسان.
لقد طال الأمد على الناس وهم يعتقدون الحياة فرنا وحشيا هائلا توقد فيه الملايين منهم لاستخراج حبة من الذهب. وما أحراهم ان ينظروا اليها كحقل واسع مديد تتفتح فيه الورود والازهار من كل جانب بشتى الالوان والاشكال.
كان العرب القدماء يعتقدون ان نفس القتيل الذي لم يؤخذ بثأره تتحول بعد موته إلى طائر يحوم حول القبر صارخا متوجعا من عطشه المحرق. وكأن هذه حال ألوف النفوس توارى كل يوم في التراب قبل ان تشفي من الحياة ظمأها، لأن أوضاع المجتمع حولتها إلى حيوانات ذليلة تقضي العمر خافضة الرأس إلى الارض تبحث عن لقمتها، بدلا من أن تكون مخلوقات بشرية مشرئبة نحو النور تمنح أحسن ما عندها.
انني أفكر لكل الذين يتململون في زوايا القبور من ثقل الآمال التي لم يتح لهم المجتمع تحقيقها في الحياة، ومن كنوز الخير والحب والحماسة التي بقيت كامنة في قلوبهم وما تسنى لهم اظهارها واستخدامها. انهم أشبه بشجرة مورقة نقطعها ونلقيها في النار فتزهر وهي تحترق.
اذا كنت أدعو إلى الاشتراكية فلكي لا تحرم الحياة من مواهب هذه النفوس وقواها الدفينة وجهودها الحرة الخصبة. ما نظرت إلى الاشتراكية في يوم من الايام كواسطة لاشباع الجياع وإلباس العراة فحسب، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعا بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع دون ظهورها، ولا أرى الاكل غاية له، بل سبيلا ليتحرر من الضرورات الحيوانية وينصرف إلى القيام بوظيفته الانسانية.
ان الذي يظن الاشتراكية دينا للشفقة مخطىء أيما خطأ، وما نحن رهبان نلوذ بالرحمة لنطمئن وجدانا أقلقه مرأى البؤس والشقاء حتى نعظم في عيون أنفسنا وننام هادئي البال. اننا في دفاعنا عن الجماهير المحرومة لا نمنحهم صدقة بل نطلب لهم حقا، ولا يهمنا تخفيف البؤس اذا لم يكن ذلك لزيادة ثروة الحياة.
اذا سئلت عن تعريف للاشتراكية فلن أنشده في كتب ماركس ولينين وانما أجيب: «انها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت.
فهي بفتحها باب العمل أمام الجميع، وسماحها لكل مواهب البشر وفضائلهم ان تتفتح وتنطلق وتستخدم، تحفظ ملك الحياة للحياة، ولا تبقي للموت الا اللحم الجاف والعظام النخرة.
عام 1936