مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش) :مرج السلطان وعيد الأضحى
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
عيد نستقبله والألم يعتصرقلوب من فقدوا أبناءهم، أو أخوتهم، أو أزواجهم، أو أباءهم، ونهبت أملاكهم، ودمرت بيوتهم ومتاجرهم، و اقتلعت أشجارهم، وأنتهكت أعراض بناتهم وأخواتهم وزوجاتهم وإمهاتهم، وأصبح الحزن والكآبة والوجوم والعبوس سيد السحنات والوجوه، والغضب والغيظ والغل يملأ الصدور… ولم يتبقى للمشردين والمهجرين من قراهم ومدنهم سوى البكاءعلى المفقودين والغائبين المبعثرين في بلدان النزوح، واستعراض صور ذكريات تعصف بكياناتهم. والحديث ممتد وذو شجون وآلام.
كانت قريتي مرج السلطان في مثل هذه الأيام السابقة للعيدين، بؤرة نشاط واستعداد لاستقبال العيد. وكان عيداً يحتفل فيه الكبير والصغير كلٌ بما رُزق واستطاع. فميسور الحال يستعد لعيد الأضحى (العيد الكبير) بكبش أو بثور أو بجاموس، والفقير ينتظر أن تصله حصته من لحوم الأضاحي صبيحة اليوم الأول وخلال أيام العيد. يحملها إلى منازلهم فتية يجوبون القرية على دراجاتهم الهوائية لتوزيعها. والأفضلية هي لمنازل المحتاجين والأرامل واليتامى الذين لم يتذوقوا طعم اللحم إلا في الأعياد والأعراس. يليهم الأقارب والجيران. ثم غيرهم. وكان لطقس العيد في قريتي نكهة اجتماعية وروحية خاصة، لايختلف كثيراً عن طقوسه في مثيلاتها في القرى الشركسية الأخرى في سورية اختلافاً جوهرياً. فبعد تأدية الرجال صلاة الفجر وصلاة العيد، كانوا ينطلقون إلى موقع المقبرة القديمة (مقبرة الغابة أو الغيضة Къэмэз) وقراءة الفاتحة على أرواح الأجداد المؤسسين للقرية، ومنها إلى مقبرة القرية الواقعة جنوبيها مسافة تزيد على الكيلومتر، سيراً على الأقدام، يتقدمهم إمام الجامع. يقرأون الفاتحة جماعة، يتجه بعدها كل إلى ضريح قريبه ليقرأ له ماتيسر من السور والآيات. ولا أذكر أن أحدا من مرج السلطان حمل إلى القبور زهوراً أو عروق نبات الآس كما هي عادة زوار المقابر العربية والمدن. يغادر بعدها الجميع زرافات و أفراداً المقبرة، لتنفيذ البند الثاني من الطقس، وهو زيارة الأسر التي توفي أحد أفرادها في الفترة السابقة للعيد المحتفل به قبل عودة الكل إلى منازلهم، حيث يكون أفراد الأسرة بانتظار العائدين من المقبرة. وتبادل التبريكات وتقبيل الصغار والفتية يد الأب أو الجد (عادة دخيلة علينا من العثمانيين)…. والحديث في شأن الأعياد ذو شجون وطويل لست في مزاج يساعدني على الخوض فيه، بعد رؤية ما حل بقريتي.
فالعيد اليوم وبعد مضي ثمان سنوات من الحرب الظالمة في سورية، وحتى بعد السماح بعودة الأهل إلى مرج السلطان…. ليس هو عيد بل مندبة يحركها الأسى والدمع والأنين على الأطلال والخراب والتعفيش االذي طال كل بيت لا في قريتي وحسب، بل في كل القرى السورية…. ويعكس ما يحمله المعتدون لها ولأهلها من الكراهية والحقد والضغن والدمنة والشحناء والعداوة المتجذرة في خلاياهم…… فلم يعد عيد حلوى وثوب جديد وعيديات وأراجيح ومفرقعات (فلين) وزميرات و…. للأولاد، لقد فقد العيد حتى روح التهنئة والتبريك وحرارتهما، ولو كانتا نص مخابرة هانفية أو أسطراً على رسالة الكترونية أو في جريدة، أو على شاشات التلفزة التي تستغبي المشاهد وتقول له (إن الدنيا بخير.. ؟؟؟).
أعياد وأعياد مرت على سورية والحرب لمّا تضع أوزارها نهائياً بعد، وأطماع قضمها وتقطيع أوصالها ما زالت تهدد مستقبلها…ونحن نردد مع الشاعر مصطفى جمال الدين:
هـذا هـو العيـدُ ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ **** ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهــــم **** مَـنْ في البلاد بقي منهم ، ومن نزحوا؟!
أما الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي فيقول:
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي **** قلوبنا من صنوف الهمِّ ألـــوان؟
من أين نفرح والأحـداث عاصفة **** وللدُّمى مـقـل ترنـــــــو وآذان؟
ويقول الشاعر محمد المشعان:
ما أنت يا عيد والعربان قد ثكلوا **** جمالهم والمراعي وانتهى المـاطر ؟
ما أنت يا عيد في قوم يمر بهــم **** ركب الشعوب وهم في دهشة الحائر
ومع ذلك تستمر الحياة وسيندمل الجرح، ويفرح الجميع بالعيد. وكل عام والجميع بخير على أمل معايدة الجميع بالمصافحة والعناق، وليس بالهاتف و المواصلات الألكترونية.
دمشق :11 – 8 -2019