مقالات
وليد قنباز: الصحفي نجيب الريس
نجيب بن محمود الريس، صحفي أديب من شباب الحركة الوطنية في سورية، ولد في مدينة حماة عام 1898م تلقى علومه الأولية في مدارس مدينة حماة الخاصة ، ثم انتقل مع والده إلى حمص ،وهناك تابع دراسته على كبار أساتذة اللغة العربية والأدب، إضافة إلى عكوفه على حفظ نماذج شعر المتنبي، وشوقي وغيرهما.
قصد الريس دمشق عام 1918 وجعلها مقره وعمل في الصحافة السورية وراسل بعدها عدداً من الصحف اللبنانية من بينها الأحرار و النهار ثم انتقل إلى إصدار جريدة القبس الدمشقية عام 1928 فكانت ديواناً للحركة القومية وسجلاً للنهضة الوطنية في سورية وفي الأقطار العربية ..
وقد اشتهر نجيب الريس بالإضافة إلى تميزه في العمل الصحفي بنضاله في الحقل الوطني فكانت افتتاحياته سياطاً من نار على المستعمر الفرنسي ولذلك كانت (القبس) تعطل المرة تلو المرة حتى انتهى الأمر بدفعه ثمنا كبيراً لذلك سجناً ونفياً من قبل السلطات الفرنسية ، كما اكتسب شهرة واسعة عبر نشيده الوطني الشهير – يا ظلام السجن خيّم – الذي نظمه في المنفى في جزيرة أرواد السورية التي نفاه إليها الانتداب الفرنسي عام 1922، وفي الفترة الواقعة ما بين (1920 و 1943) كان نجيب الريس نزيل السجون والمعتقلات والمنافي في قلعة دمشق وحلب وبيروت وغيرها حتى بلغ مجموع ما قضاه من عمره في السجون نحو ثماني سنوات، وقد تميزت مقالات نجيب الريس بالجرأة والبيان والوضوح والكلمات المؤثرة التي شجعت الناس على المظاهرات والثورات، وأقلقت الفرنسيين.
جمع نجيب الريس ما كتبه من افتتاحيات لجريدته «القبس» في كتابين هما: (نضال)، وقدم له فارس الخوري بقوله:
(( وهو في إيمانه الوطني أرسى من الجبل, وعلى خطته أبقى من الدهر، لا تخور له عزيمة، ولا يلين له عود، صبر على الشدائد وتلقى ضروب الاضطهاد في سبيل مبدئه الحر، وهو كالشعلة كلما ضربتها تزيد انتشارا))
وكتاب (جراح) ، قدم له شاعر الشام شفيق جبري فقال:
((كان نجيب الريس شاعراً في قلبه، كان يستطيع أن يلجأ في مقالاته إلى لغة الشعر، أي إلى المبالغات التي تذهب بالأمور عن الحقائق فلا يكون لها تأثير بليغ، ولكنه لم يلجأ إلى شيء من ذلك فقد عاش في وطن تألم كثيراً وجاهد كثيراً، وكان ألمه صادقاً وجهاده صحيحاً، فلم يفتقر هذا الوطن في تصوير أموره إلى غلو قبيح فيصور نجيب الريس في مقالاته صدق الألم وصحة الجهاد دون شيء من زخارف القول لأنه عاش في غمرة هذا الألم، وتقلب في شدة هذا الجهاد فظهر التناسب الرائع بين صدق شعوره وبين صدق ألم الوطن))..
نجيب الريس شاعر وطني قومي مناضل، المتاح من شعره يدور حول تجربة السجن والنضال التي عاشها في معتقل جزيرة أرواد ، وله شعر في الحنين والتذكر، وكتب الأناشيد ذات الطابع الحماسي الثوري، اتسمت لغته بالجهارة وقوة العبارة، خياله نشيط. التزم الوزن والقافية فيما أتيح له من شعر.
ومن شعره نشيده الوطني «ياظلام السجن خيم» :
يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ السّـجنِ إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
أيّها الحُرّاسُ رِفـقـاً و اسمَعوا مِنّا الكَلاما
مـتّعُـونا بِـهَـواء منعُـهُ كَـانَ حَرَاما
إيـهِ يا دارَ الفخـارِ يا مـقـرَّ المُخلِصينا
قدْ هبطْـناكِ شَـبَاباً لا يهـابـونَ المنونا
و تَـعَاهدنا جَـميعاً يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا
لنْ نخونَ العهدَ يوماً واتخذنا الصدقَ دِيـنَا
يا رنينَ القـيدِ زدني نغمةً تُشـجي فُؤادي
إنَّ في صَـوتِكَ مَعنى للأسـى والاضطهادِ
لـسـتُ والله نَسـيّاً ما تقاسِـيه بِـلادِي
فاشْـهَدَنْ يا نَجمُ إنّي ذو وفــاءٍ وَ وِدادِ
وبعد..
كان الريس وفياً لوطنه حراً نبيلاً ذا مبادئ لذا انتخبه أبناء دمشق عام 1943م نائباً عنهم على قائمة الرئيس شكري القوتلي أربع سنوات، واشتهر في البرلمان خطيباً مفوهاً جريئاً في الدفاع عن قضايا البلاد ومصالح الشعب، ولم يرشح نفسه للانتخابات بعدها، وانصرف لجريدته يكتب ويطالب بالمحافظة على الاستقلال وصيانته، مفضلاً العمل الصحفي على العمل النيابي، مطالباً الحكومات بتعزيز الاقتصاد وتدعيم الزراعة والصناعة وزيادة الإنتاج.
واستمر في عمله المحبب إلى نفسه إلى أن شعر بالتعب فقصد حمامات الحمة السورية للاستشفاء ومكث فيها بضعة عشر يوماً، ثم عاد منها تعباً وعالجه نفر من مهرة الأطباء وتماثل من المرض إلا أن المنية عاجلته في مدينة دمشق عام 1952 ودفن فيها ، حيث قابلت دمشق خبر وفاته بالدهشة والحزن ، ولم تمض ساعات قليلة على رحيله حتى بدأت الوفود تصل إلى دمشق من حمص وحماة وحلب والجزيرة ، وشيع الريس وتقدم الموكب أسرته وممثل للزعيم فوزي السلو ورجال الحزب الوطني ورجال الصحافة السورية واللبنانية ووجهاء سورية ، وكتبت الصحافة وقتها أن دمشق لم تشهد موكبا كموكب نجيب الريس.
وبعد ذلك وقف نصوح بابيل نقيب الصحافة السورية فبكاه في كلمات ولاأروع ، ثم وقف الشاعر فخري البارودي وألقى أبياتا من الشعر ، وأخيرا وقف الشاعر بدر الدين الحامد (وهو شقيق نجيب الريس من والدته) ، فألقى كلمة أهل الفقيد ..
و بوفاة نجيب الريس خلا مقعد التحرير في جريدة (القبس) وبذلك انتهى العصر الذهبي لجريده القبس الدمشقية(1) .
(1) أرشيف مجموعة محبي الاديب وليد قنباز